اكتشاف العلاقة بين فلسفة الفن والميتافيزيقا في الحضارات القديمة، فهم اللغة الرمزية في الفن من الفلسفة الشرقية القديمة، المعتقدات والأسطورة في الفن.
في الحضارات الشرقية القديمة، لم يكن الفن مجرد وسيلة للتعبير الجمالي، بل كان تجسيدًا حيًا للمعتقدات الميتافيزيقية والروحانية العميقة التي سادت تلك الثقافات. من خلال استعراضنا للفنون المعمارية والنحتية والتصويرية في حضارات مصر القديمة، وبلاد الرافدين، وفينيقيا، واليونان، نرى كيف اندمج الفن مع الفلسفة والدين والأسطورة ليعكس فهم الإنسان للكون والوجود.
![]() |
الفنون والميتافيزيقا في الحضارات القديمة |
الفن والميتافيزيقا: مدخل إلى روح الحضارات الشرقية القديم
منذ أن خطّ الإنسان أولى إشاراته على جدران الكهوف، لم يكن الفن أداة للتعبير الجمالي فقط، بل لغة للروح، ومرآة لما وراء الحس، بل للميتافيزيقا. ففي الحضارات الشرقية القديمة، لم يكن الفن معزولًا عن العالم الروحي والديني، بل كان جزءًا لا يتجزأ من العقيدة، يتنفس الأسطورة، ويتحدث بلغة الرموز. ولعل هذا هو ما يجعل من دراسة الفن في هذه الحضارات، ليس مجرد قراءة في الجماليات، بل رحلة فلسفية في عمق الوعي البشري.
ففي مصر، بلاد ما بين النهرين، وفينيقيا، وبلاد الإغريق، نجد أن الفنان لم يكن يُعدّ مجرد صانع، بل كاهنًا ومترجمًا للأسرار الكونية. وهو ما يقودنا إلى طرح سؤال جوهري: كيف تجسدت الميتافيزيقا في الفن الشرقي القديم؟ وما هي العلاقة بين الشكل الفني والمضمون العقائدي في هذه الحضارات؟
"الفن ضروري لكي يتمكن الإنسان من التعرف على العالم وتغييره. لكنه ضروري أيضًا بسبب السحر الكامن فيه."— إرنست فيشر، ضرورة الفن
البُعد الماورائي في الأعمال الفنية: عندما يتحول الفن إلى وسيط بين العوالم
لا يمكن قراءة الأعمال الفنية القديمة دون الوعي بكونها وسيطًا بين العالم المادي والعالم الروحي، بين الواقع والحلم، بين الظاهر والخفي. المعابد المصرية، الزقورات الرافدينية، التمائم الفينيقية، كلها شُيّدت وفق مفاهيم هندسية وروحانية تهدف إلى تفعيل الاتصال بالقوى غير المرئية.
الفنان القديم لم يكن "صانع صور" فحسب، بل كان كاهنًا في محراب الوجود، يعيد تشكيل الكون بصريًا. هذه النزعة لم تقتصر على الشعوب الشرقية، بل امتدت إلى الفكر الغربي، كما في المذاهب الأفلاطونية التي رأت في العمل الفني انعكاسًا لعالم المُثل. كل لوحة، كل تمثال، كل أيقونة، حملت في داخلها طيفًا من المعنى الغيبي الذي لا يُرى بالعين المجردة بل يُستشعر عبر البصيرة.
الفن المصري القديم: تجسيد للأبدية والروح
في مصر القديمة، كان الفن مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالمعتقدات الدينية والميتافيزيقية. فالأهرامات والمعابد لم تكن مجرد هياكل معمارية، بل كانت تمثل ممرات روحية لانتقال الفراعنة إلى العالم الآخر. التصميمات الهندسية الدقيقة، والتوجهات الفلكية، والرموز المستخدمة في الزخارف، كلها تعكس فهم المصريين للعالم الروحي ورغبتهم في تحقيق الخلود.
التماثيل المصرية، خاصة تلك التي تمثل الفراعنة والآلهة، كانت تُصنع بدقة لتكون أوعية تسكن فيها الروح (كا) بعد الموت. أما التصوير الجداري، فكان يحمل رموزًا وألوانًا تعبر عن مفاهيم مثل الحياة، البعث، والقوة، مما يعكس التداخل بين الفن والميتافيزيقا في الثقافة المصرية القديمة.
الميتافيزيقا في قلب المعمار
لم يكن المعمار المصري القديم مجرد بناء ضخم قائم على قواعد هندسية صارمة، بل كان تجسيدًا بصريًا لفلسفة أبدية تؤمن بأن الحياة الأرضية ما هي إلا لحظة عابرة في رحلة الروح نحو الخلود. فالأهرامات، تلك الكتل الهائلة التي تتحدى الزمن، لم تُبْنَ من أجل الهيبة السلطوية فقط، بل كممرات روحية لعبور الفراعنة إلى العالم الآخر. كانت الأبعاد والاتجاهات والزوايا مدروسة بعناية فلكية وروحية، تتناغم مع مسارات الشمس والكواكب، وفقًا لمعتقدات دينية تعتقد أن الألوهية تنعكس في الكون.
التصوير الجداري والرمزية المقدسة
في مشاهد المقابر والمعابد، يتجلى التصوير المصري بأسلوبه الصارم والمنظم، ليس بوصفه تصويرًا واقعيًا بل كرمز. فالألوان ليست للزينة، بل للرمز: الأزرق للإلهي، الأخضر للبعث، الأحمر للقوة. كل إيماءة، كل وضعية جسدية، كل ارتفاع للشخصيات يحمل معنى ميتافيزيقيًا. نرى الإله أوزير، إله البعث والحياة بعد الموت، يقف بجلاء بلون أخضر، رمزًا لتجدد الحياة. الفن هنا لا يصف، بل يُعلِّم، يُنبّه، ويُرشد.
![]() |
أخناتون، نفرتيتي، وثلاث بنات تحت آتون؛ من تل العمارنة؛ الأسرة الثامنة عشرة؛ حوالي عام 1345 قبل الميلاد؛ متحف بيرغاموم، برلين. commons.wikimedia |
فن النحت في مصر القديمة كطقس للعبور
التماثيل المصرية، ولا سيما تماثيل الملوك، لم تكن مجرد صور شخصية، بل أوعية تسكن فيها الروح (كا). من هنا جاءت الدقة في النسب، والصرامة في الملامح، لأن التمثال هو البديل الروحي للملك في الحياة الأخرى. وبالتالي، فإن كل تمثال هو أداة ميتافيزيقية تهدف إلى ضمان الاستمرارية بين عالميْ الأرض والسماء.
فن بلاد الرافدين: تمثيل للسلطة الإلهية والأسطورة
في بلاد الرافدين، كان الفن وسيلة لتجسيد السلطة الإلهية والملكية. الزقورات، وهي الأبنية الهرمية المتدرجة، كانت تمثل صلة بين الأرض والسماء، وتُستخدم كمراكز دينية. النحت الرافديني غالبًا ما يصور الكائنات الأسطورية مثل الثور المجنح (لاماسو)، والتي كانت ترمز إلى الحماية والقوة الإلهية.
الكتابة المسمارية، المدمجة في الأعمال الفنية، كانت تحمل نصوصًا دينية وأساطير تعكس المعتقدات الميتافيزيقية للشعوب الرافدينية. الفن هنا لم يكن فقط للتزيين، بل كان وسيلة لنقل الأفكار الدينية والروحية.
البنية الرمزية للزقورات والمعابد
في بلاد الرافدين، وتحديدًا في سومر وأكد وبابل، لا نجد فصلًا بين الفن والدين، فالفن هنا هو تمثيل ملموس لأوامر الآلهة. الزقورات، وهي الأبنية الهرمية المتدرجة، لم تكن معابد فقط، بل سلالم رمزية تربط الأرض بالسماء. هذه الأبنية، المحورية في تخطيط المدن، تحمل في تصميمها فكرة "المركز الكوني"، إذ اعتُبر أن المدينة هي مركز الكون، والزقورة هي القلب النابض لهذا المركز، حيث يهبط الإله ويصعد.
النحت تجسيد للأسطورة
في النحت الرافديني، نلاحظ حضورًا قويًا للكائنات الهجينة: الثور المجنح (لاماسو)، الكائنات الأسطورية، والملوك ذوي اللحى المتعرجة. هذه الصور ليست واقعية، بل رمزية - تجسيد للقوة، للحماية، وللاتصال بعالم الآلهة. كل تمثال هو حضور ميتافيزيقي، يكاد يُسمع له هدير الهيبة الروحية، وتكاد تشعر أن العينين المنحوتتين تتبعانك.
الكتابة والفن: اتحاد المضمون والرمز
الخط المسماري، الذي يُعد من أولى أشكال الكتابة، اندمج بالفن ليشكّل صورًا مركبة من نصوص ونقوش. فالفن هنا لا يُفهم دون معرفة باللغة والأسطورة. فحين نرى الأسطوانات المختومة، أو الألواح الطينية المنقوشة، فإننا نقرأ مشهدًا رمزيًا لطقس ديني، أو معاهدة مقدسة، أو حكاية خلق. الميتافيزيقا متجذرة في الحروف، في التكوين، في الطين ذاته.
الفن الفينيقي: تفاعل بين الثقافات والرمزية الروحية
الفن الفينيقي تميز بتأثره بالثقافات المجاورة مثل المصرية والرافدينية واليونانية، مما أدى إلى مزيج فني فريد. الحلي والتمائم الفينيقية غالبًا ما كانت تحمل رموزًا مثل الشمس، القمر، والعيون الواقية، والتي كانت تُستخدم للحماية والتواصل مع القوى الروحية.
كما أن الأبجدية الفينيقية، التي انتشرت في مناطق واسعة، كانت تمثل تطورًا في نقل الأفكار والمعتقدات، مما يعكس التداخل بين الفن والميتافيزيقا في الثقافة الفينيقية.
الحرف والرمز: بداية التدوين الروحي والماورائيات
رغم أن الفن الفينيقي ظل متأثرًا بالحضارات المجاورة، خصوصًا المصرية والرافدينية، إلا أن خصوصيته تتجلى في التبسيط الرمزي والتركيز على الوظيفة. لقد كان الفينيقيون بحارة، وتجارًا، وناقلي حضارات، فظهر الفن لديهم كجسر بين الثقافات. ابتكروا الأبجدية الفينيقية، التي ستكون لاحقًا أساسًا للكتابات اليونانية واللاتينية، وهذا التطور ليس لغويًا فقط، بل ميتافيزيقيًا، إذ انتقلت الأفكار الدينية عبر الرموز، واستطاع الفن أن يُعبّر عن روح غير محلية بل كونية.
الرمزية في المجوهرات والنقوش: تُظهر الحلي الفينيقية استخدامًا مكثفًا للرموز الشمسية، والأقمار، والعيون الواقية، والعقارب، والثعابين. هذه العناصر لم تكن للزينة، بل للتواصل مع القوى الروحية، وللحماية من الشرور. يظهر ذلك في التمائم المصنوعة من الذهب، والعاج، والزجاج، حيث تندمج الزخرفة بالغاية الروحية.
الفن المتنقل و تعدد المعتقدات
نقل الفينيقيون فنهم عبر المتوسط، من صور وصيدا إلى قرطاج ومالطا. وفي كل مكان، تكيف الفن مع البيئة والأسطورة المحلية، لكنه احتفظ بجوهره: الرمز بوصفه حاملًا للروح. كانت الميتافيزيقا حاضرة في السفن، في الأدوات، في المعابد البحرية، في طقوس عبادة الإلهة عشتروت، سيدة البحر والخصوبة.
الفن الإغريقي القديم من المحاكاة إلى الجمال الفلسفي
الفلسفة والجمال: بداية التجريد الواعي، رغم أن الحضارة الإغريقية تُعد غربًا بالنسبة للشرق القديم، إلا أن جذورها الفكرية متأثرة بالشرق. ففي بدايات الفن الإغريقي، نجد المحاكاة الحرفية للطبيعة، ولكن مع تطور الفكر الفلسفي، بدأ الفن يتجه نحو التجريد، أي البحث عن "الجمال الكامل"، أو "المثال"، كما شرح أفلاطون في نظريته عن المثل. هكذا بدأ الفن يتجاوز الشكل الظاهري نحو التعبير عن الكمال الروحي.
الفن الإغريقي: السعي نحو الكمال والجمال المثالي
في الحضارة الإغريقية، كان الفن مرتبطًا بالفلسفة والسعي نحو الكمال والجمال المثالي. التماثيل الإغريقية، خاصة في العصر الكلاسيكي، كانت تصور الإنسان في أبهى صوره، مع التركيز على التناسب والتناغم، مما يعكس المفاهيم الفلسفية حول الجمال والفضيلة.
المعابد الإغريقية، بتصميمها الهندسي الدقيق، كانت تمثل انسجامًا بين الشكل والوظيفة، وتعكس فهم الإغريق للعالم والميتافيزيقا.
المعبد كمكان للرياضة الروحية
المعبد الإغريقي، الذي يتوسط المدينة، ليس فقط مكانًا للعبادة، بل للتأمل في الكمال الهندسي. الأعمدة، وتناسب النسب، والأفاريز المرسومة، كلها تعبيرات عن انسجام كوني. فالفنان الإغريقي، مدفوعًا برؤية سقراط وأفلاطون وأرسطو، لم يكن يعمل من أجل الجمهور فقط، بل من أجل الحقيقة.
النحت كفلسفة حية: التماثيل الإغريقية، خصوصًا في العصر الكلاسيكي، تُجسِّد فلسفة الجسد والعقل. لا وجود لرمزية صارخة كالمصرية أو الرافدينية، بل هناك صمت ميتافيزيقي، تجلٍّ للجمال العقلي. كل عضلة، كل التواء في الجسد، هو بيان فني عن الفضيلة، القوة، والسمو الروحي.
الرمز في الفنون القديمة: مفتاح الدخول إلى العوالم الماورائية
منذ فجر الحضارات، لم يكن الرمز في الفنون القديمة مجرد زخرفة أو عنصر تجميلي، بل كان حاملاً لمعانٍ أعمق تتجاوز الإدراك الحسي، وتفتح بوابة نحو الميتافيزيقا. في مصر القديمة، كان الجعران يمثل البعث، بينما كانت العين "أوجات" ترمز إلى الحماية والوعي الكوني. في بلاد الرافدين، برز الثور المجنح كحارس أسطوري للبوابات بين العوالم. وفي الفن الفينيقي، ظهرت الرموز الشمسية والبحرية كتجسيد لتوازن القوى الكونية.
هذه الرموز لم تكن تُفهم في سياقها الجمالي فقط، بل كانت تعبيرًا عن علاقات سرمدية بين الإنسان والطبيعة والإله. لقد جسّد الفنانون القدماء مفاهيم مثل الخلود، التحول، الحماية، عبر تشكيلات رمزية مرتبطة بأساطير الخلق، والموت، والعالم الآخر. هذه اللغة الرمزية كانت بمثابة "ميثولوجيا مرئية" تفكك العالم وتعيد تركيبه وفق منظومة روحية تتجاوز الزمان والمكان.
الميتافيزيقا بين أرسطو وأفلاطون: ما وراء الطبيعة والجدل الأبدي للصورة
إذا كانت الميتافيزيقا في الفكر الإغريقي عند أفلاطون ترتكز على عالم المُثل، فإن أرسطو أعاد توجيهها نحو ما وراء الطبيعة بوصفه علمًا يبحث في العلل الأولى والجوهر. هذا الجدل الفلسفي انعكس بعمق في النظر إلى الفن والصورة. أفلاطون كان شديد الشك في الصورة لأنها "ظل لظل"، بينما أرسطو منحها دورًا أنطولوجيًا في تمثيل الحقيقة من خلال المحاكاة.
الفن، في هذا السياق، أصبح إما قناة للاقتراب من الحقيقة، أو حاجزًا يمنع الوصول إليها. هذا التوتر الفلسفي سيُعاد إنتاجه لاحقًا في النقاشات اللاهوتية المسيحية حول "الصور المقدسة"، وسيصل ذروته في خلاف الكنيسة الكاثوليكية والأرثوذكسية حول "الأيقونات"، بين من يراها بوابة إلى العالم الإلهي، ومن يراها شركًا بصريًا.
ميتافيزيقا الصورة: من خلاف الكنيسة إلى فن ما بعد الحداثة
الصورة المقدسة بين الفلسفة واللاهوت: جدل الميتافيزيقا والصورة في القرون المسيحية الأولى، في قلب العلاقة المعقدة بين الفن والميتافيزيقا، تقف الصورة الدينية بوصفها نقطة تقاطع رمزية بين المرئي واللامرئي، بين المادة والروح، بين الطقس والتأمل. وقد مثّلت هذه الصورة ـ أو "الأيقونة" ـ موضوعًا لخلافات جوهرية في التاريخ المسيحي المبكر، بلغت ذروتها في الصراع البيزنطي حول تحطيم الأيقونات، والذي يعد من أبرز تمظهرات الجدل الميتافيزيقي حول تمثيل المقدّس.
ابتداءً من القرن الثامن الميلادي، ظهرت في الإمبراطورية البيزنطية حركة تحطيم الأيقونات (Iconoclasm)، انطلاقًا من تصوّر لاهوتي يناهض تجسيد المقدّس في مادة مرئية، ويعتبر أن تمثيل الذات الإلهية أو القديسين في صورة مادية يُفضي إلى عبادة الأصنام ويتعارض مع التسامي الروحي. وقد اتخذ هذا الموقف بعدًا سياسيًا في عهد الإمبراطور ليو الثالث (717-741م) وامتد حتى عام 843م، حين أُعيد الاعتراف بالأيقونات رسميًا فيما عُرف بـ "الانتصار الأرثوذكسي".
في المقابل، تبنّت الكنيسة الغربية (الكاثوليكية اللاتينية) موقفًا مخالفًا، حيث دافع البابا غريغوريوس الكبير عن قيمة الصورة ليس كموضوع للعبادة، بل كوسيط رمزي وتعليمي يساعد المؤمنين على التأمل، و"يعلّم الأميين ما لا يستطيعون قراءته"، بحسب تعبيره. هكذا، تحوّلت الصورة إلى مجالٍ للتجلي اللاهوتي لا للتجسيد الوثني، وانفتح المجال أمام تطور جمالي وفني طويل في الثقافة المسيحية الغربية.
وقد أدّى هذا الخلاف العقائدي حول وظيفة الصورة الدينية إلى أن يصبح أحد محاور الانقسام الكبير بين الكنيسة الشرقية الأرثوذكسية والكنيسة الغربية الكاثوليكية عام 1054م، إلى جانب قضايا أخرى كـ السلطة البابوية، وتعديل قانون الإيمان (Filioque)، والخلاف الطقسي واللغوي.
![]() |
أيقونة أرثوذكسية تصوّر انتصار مؤيدي الأيقونات في حرب الأيقونات البيزنطية في عهد الإمبراطورة ثيودورا وابنها ميخائيل الثالث. National Icon Collection, British Museum. |
إن هذا الصراع التاريخي لا يمكن قراءته بمعزل عن الخلفية الميتافيزيقية التي حكمت نظرة الكنيسة ـ وعموم الفلاسفة واللاهوتيين ـ إلى الصورة بوصفها تمثيلًا للعالم الروحي، أو محاولة لإعادة تشكيل الغائب في هيئة الحاضر. لقد ظلّت هذه الإشكالية ماثلة في فكر العصور الوسطى، وأثّرت لاحقًا في فهم الصورة داخل الفن المعاصر والحديث، حيث تعود الأسئلة ذاتها في قوالب جديدة: هل يمكن للفن أن يكون تجليًا؟ وهل تستطيع الصورة أن تحتمل الألوهية دون أن تتهدّم؟ وهل يمكن للمرئي أن يستبطن الغيب دون أن يُشوِّهه؟
امتد الجدل الميتافيزيقي حول الصورة من القرون الوسطى إلى القرن العشرين، وتحوّل من النزاع اللاهوتي إلى تساؤلات فلسفية وجمالية حول طبيعة التمثيل. لقد رأى بعض فلاسفة الجمال، مثل سوزان لانجر، أن كل صورة فنية هي "رمز ميتافيزيقي" يعيد خلق العالم وفق منطق داخلي خاص بها.
هذا المنطق سيبلغ أقصاه في فنون ما بعد الحداثة، حيث تُطرح الصورة كأثر، كفراغ، كمساحة تأملية. في أعمال مثل تلك التي قدمها مارك روثكو، تتحول اللوحة إلى بوابة إلى السكون، إلى العمق، إلى المجهول. لم تعد الصورة مجرد "تمثيل"، بل أصبحت "ممارسة ميتافيزيقية" تستحضر اللامرئي، وتُفعّل التأمل فيما وراء المادة.
من المعابد إلى الميادين الحمراء: كيف استلهم الفن الشيوعي عظمة الفنون القديمة
على الرغم من تبني الشيوعية لفكر مادي صريح، فإن الفن السوفيتي لم ينفصل عن النزعة الميتافيزيقية التي كانت تنبض في قلب الفنون القديمة. تُظهر الجداريات والنُصُب الضخمة في عهد ستالين ولينين تشابهًا مذهلًا مع أساليب تمجيد الآلهة والملوك في مصر وسومر. لقد تم تحويل الزعيم إلى "أيقونة"، جسدها الفنان كما كان يُجسَّد الإله في النحت المصري: بنسب مثالية، بتعابير ثابتة، وبموقع مركزي مهيب.
حتى في أدق تفاصيل الدعاية البصرية، كانت الرمزية قائمة: اليد المرفوعة نحو المستقبل، الشُعاع الشمسي، الزخم الجمعي الذي يُذيب الفرد داخل الكتلة الجماهيرية. تلك الرموز لم تكن محايدة، بل مشبعة برسائل خفية حول السيطرة، الخلود، والرسالة الخلاصية للنظام. هكذا امتزجت الأيديولوجيا بالأسطورة، وانبعثت مفاهيم ماورائية في فن يُفترض أنه مادي صِرف.
الفن، السحر، الطلاسم والميتافيزيقا: رحلة لا تنتهي عبر الأزمنة والثقافات
من النقوش في المعابد الفرعونية، إلى الأيقونات البيزنطية، ومن الأساطير البابلية إلى الرموز السحرية في لوحات السرياليين، يسير الفن جنبًا إلى جنب مع الميتافيزيقا في رحلة لا تنتهي. الفن هنا ليس "تمثيلًا للواقع"، بل أداة استحضار، فتح بوابة نحو الأبعاد الخفية.
الطلاسم لم تكن مجرد شعوذة، بل منظومات رمزية تحاكي الكون، كما في فن الماندالا الهندوسي، أو النقوش الصوفية الإسلامية. الفن السحري يظهر في أعمال بول كلي، ويوسف عبدلكي، ومحيي الدين لبيب، حيث تُستدعى رموز الأسطورة واللامرئي لتوليد شعور بالدهشة والتجاوز.
هذه الرحلة، الماورائية والفنية في آن، تكشف أن الفن لم يكن يومًا محصورًا في الإدراك الحسي، بل هو دائمًا ما كان وما يزال، طريقًا للعبور إلى المجهول.
خاتمة: الفن الشرقي القديم انعكاس للروح والميتافيزيقا ووسيط بين الإنسان والكون
من خلال استعراضنا للفنون في الحضارات الشرقية القديمة، نرى كيف كان الفن أكثر من مجرد تعبير جمالي؛ كان وسيلة لفهم العالم، والتواصل مع القوى الروحية، وتجسيد المعتقدات الميتافيزيقية. الفن في هذه الثقافات كان يعكس فهم الإنسان للكون، ورغبته في التواصل مع الماورائيات، وتحقيق الخلود.
فلسفة الفن في الحضارات الشرقية القديمة تكشف عن تصور وظيفة الفن، لا ينفصل فيه الشكل عن الجوهر، ولا الجمال عن الروح. فالفن في هذه الحضارات لم يكن محايدًا، بل ملتزمًا، يحمل رسالة، ويؤدي وظيفة ميتافيزيقية عميقة: أن يكون صلة بين المرئي وغير المرئي، بين الأرض والسماء، بين الإنسان والمطلق.
وعليه، فإن دراسة الفن القديم ليست مجرد حفر في الذاكرة البصرية، بل غوص في بنية العقل الشرقي، في حساسيته الماورائية، في تصوره العميق للوجود. وهذا ما يجعلنا، اليوم، في مواجهة تراث لا يكتفي بإبهارنا جماليًا، بل يُطالبنا بأن نفكر، أن نتأمل، وأن نُعيد فهم علاقتنا بالفن ككائن روحي قبل أن يكون منتجًا بصريًا.
المصادر:
Ancient Egyptian art
The Symbolism of Animals in Mesopotamian Art: (https://www.thecollector.com/animals-in-ancient-mesopotamian-art/)
Phoenician Art
Ancient Greek Philosophy: Plato, Aristotle's Legacy: (https://fromlight2art.com/harnessing-ancient-greek-philosophy-in-art-today/)
Post A Comment:
0 comments so far,add yours