أكتشف أهمية المجاز البصري، ليس مجرد تقنية فنية، بل هو آلية للبقاء والإبقاء على النقد في المجتمعات المُقيِّدة. إنه يُعوض بذكاء عن غياب الكلمة الممنوعة.
عندما يصبح البصر أخطر من النطق، في الأنظمة السياسية المُقيِّدة، حيث تتحول الكلمة المنطوقة أو المكتوبة إلى تهمة، يجد الفنان نفسه أمام مفارقة وجودية: إما الصمت أو التعبير بـ "لغة مُشفَّرة". لا يمثل الفن في هذه الحالة مجرد شكل من أشكال الترفيه أو النقد، بل يتحول إلى "تعويض سيميائي (Semiotic Compensation)" حتمي عن غياب (Absence) الحرية اللغوية الصريحة. تفرض الرقابة، بأشكالها المختلفة (السياسية، الدينية، الاجتماعية)، جداراً مُصمتاً لا يمكن اختراقه بالنصوص المباشرة.
![]() |
| الفن والرقابة في المجاز البصري |
هنا يظهر المجاز البصري (Visual Metaphor) كأداة قوية ومرنة، إذ يسمح للفنان بـ "قنص المعنى" دون التورط في "التصريح المُجرَّم". هذا المقال الأكاديمي يتعمق في تحليل العلاقة بين آليات الرقابة القمعية والتقنيات البصرية التحتية التي يستخدمها الفنانون، مُركزاً على كيفية عمل المجاز البصري كـ "لغة بديلة" تتجاوز نصوص المُراقب، وتُعوض عن الكلمات المحظورة، وتُنشئ مساحة للنقد المكبوت في وعي المُتلقي.
تشريح آلة الرقابة وتفكيك حاجز الصمت
الرقابة ليست مجرد فعل منع، بل هي "هندسة خطابية" تسعى لإعادة تشكيل الواقع من خلال السيطرة على أدوات التعبير (Jones, Chik, & Hafner, 2015). إنها تُنشئ "فضاءً مُقيَّداً" حيث تصبح الكلمات المُرتبطة بمفاهيم مثل "الثورة"، "العدالة"، "الحرية"، أو "الفساد" مُصنَّفة كـ "تابوهات لغوية" (Linguistic Taboos).
🚧 التابو اللغوي وحاجة الفنان للمناورة (Maneuvering)
عندما يُصبح النطق الصريح بكلمة "دكتاتورية" أو "قمع" أمراً مُعاقباً عليه، يضطر الفنان للتحول من الخطاب المُباشر (Direct Discourse) إلى الخطاب المُنحرف (Deviant Discourse). هذا الانحراف ليس فشلاً في التعبير، بل هو "نجاح إبداعي" في المناورة حول الحظر. تتجلى قوة الرقابة في أنها لا تمنع العمل الفني فحسب، بل تُجبر الفنان أيضاً على الرقابة الذاتية (Self-Censorship)، مما يُشكِّل ضغطاً نفسياً ومهنياً هائلاً.
ملاحظة أكاديمية: يؤكد منظِّرو الخطاب البصري أن الأيديولوجيات المُسيطرة تُنشئ "قاموساً بصرياً مُرخصاً"، وأي خروج عن هذا القاموس يُشكِّل تحدياً (Phillips & McQuarrie, 2002).
💡 لماذا يفشل الرقيب أمام المجاز البصري؟
تعتمد الرقابة على التحديد (Fixity)، أي ربط كلمة مُحدَّدة بمعنى مُحدَّد لعقاب مُحدَّد. على النقيض من ذلك، يعتمد المجاز البصري على السيولة (Fluidity) والغموض المُتعمَّد (Calculated Ambiguity).
قابلية الإنكار المعقولة (Plausible Deniability): يُمكن للفنان أن ينكر القصد النقدي وراء عمله، مُدعياً أنه مجرد تجريد أو تصوير جمالي. هذا الغموض يحمي الفنان من الملاحقة المباشرة، وهو ما يسميه الباحثون في سياق الكاريكاتير السياسي بـ "حماية المجاز" (TOUMI, 2022).
ثلاثية التحول السيميائي: يرى الباحثون أن المجاز البصري يخضع لنموذج تحويل ثلاثي المراحل: (الرمز اللغوي ← التعيين مُتعدد الأنماط ← الاستيلاء الثقافي) (International Journal of Education and Humanities, 2025). هذا يعني أن المعنى المُشفَّر بصرياً يتم فك شفرته وتملّكه من قبل المُتلقي الثوري دون الحاجة إلى نص صريح.
نظرية المجاز البصري كتعويض معرفي (Cognitive Compensation)
لفهم كيفية عمل المجاز البصري كتعويض عن الكلمة الممنوعة، يجب الاعتماد على نظرية الاستعارة المفاهيمية (Conceptual Metaphor Theory - CMT) التي وضعها لايكوف وجونسون (Lakoff & Johnson, 1980).
المجاز البصري كعملية عقلية (Conceptual Mapping)
المجاز ليس مجرد زينة لغوية، بل هو آلية "تفكير" أساسية (Bowdle & Gentner, 2005). في السياق البصري، يتم نقل هذه الآلية إلى الصورة:
- النطاق المصدر (Source Domain): هو العنصر البصري المُستخدم (مثل قفص، حيوان، ظل).
- النطاق الهدف (Target Domain): هو المفهوم الممنوع (مثل السجن، الطغيان، الخوف).
يُنشئ المجاز البصري "تعييناً مفاهيمياً" (Conceptual Mapping) بين هذين النطاقين. على سبيل المثال، بدلاً من قول "السلطة قمعية"، يمكن رسم "يد عملاقة سحقت طفلاً". اليد العملاقة (النطاق المصدر) تُعيِّن وتُعوض عن مفهوم السلطة القمعية (النطاق الهدف).
أمثلة على المجازات التعويضية:
- المجاز الحيواني (Animal Imagery): يستخدم الفنانون صور حيوانات (مثل الأخطبوط للدولة المُتغلغلة، أو الذئب الجائع للسياسي الفاسد) كتعويض عن أسماء الأشخاص أو المؤسسات. هذا التحوّل يسمح بالانتقاد الحاد مع الحفاظ على الحصانة النسبية للفنان (image+, 2024).انظر الى رائعة جورج اورويل:
مزرعة الحيوان، جورج اورويل PDF
- مجاز التشييء (Objectification Metaphor): تحويل الكائن البشري إلى شيء غير حي (مثل تمثال مُقيَّد، أو قطعة لحم في قصاب). هذا يُعوض عن غياب القدرة على نقد التجريد من الإنسانية (Dehumanization) في الأنظمة الشمولية (Fiveable, n.d.).
- مجاز الظل والنور: استخدام التناقضات الحادة بين المناطق المُضيئة والمُظلمة لتعويض غياب الخطاب حول الشفافية والغموض في الحكم. الظل يُصبح مرادفاً للسرية السياسية المُحرمة.
🖼️ دراسات حالة أكاديمية: فنانون يُحصِّنون أعمالهم بالمجاز
لتعزيز استراتيجية المحتوى العميق، من الضروري تحليل حالات تاريخية ومُعاصرة تثبت الدور التعويضي للمجاز البصري.
🇩🇿 الكاريكاتير الجزائري وحرب الرقيب (1992-2002)
خلال الحرب الأهلية في الجزائر، كانت الصحافة خاضعة لرقابة صارمة. ومع ذلك، نجح رسامو الكاريكاتير (مثل أيوب، ديلم، وماز) في نشر أعمال تنتقد الرقابة ذاتها. يوضح البحث الأكاديمي أن هؤلاء الفنانين استخدموا مزيجاً استراتيجياً من المجاز (Metaphor) والكناية/المجاز المرسل (Metonymy) ودمجهما (Metaphtonymy) لفضح الرقابة بطريقة غير مباشرة بما يكفي لتجنب الكشف (TOUMI, 2022).
آلية التعويض: رسم الرقيب على هيئة "مقصلة ضخمة" أو "كائن مُنتفخ مُقيَّد اليدين". المقصلة (المجاز) تُعوض عن مفهوم القوة القاتلة للرقابة. هذا المزيج من الأدوات البلاغية البصرية سمح لهم بنقل إدانة ضمنية للرقيب.
🇮🇳 الفن الهندي المُعاصر ورمزية اليومي
في الهند المُعاصرة، حيث تزايدت الضغوط على الفنانين لنقد القومية والتعصب الديني، لجأ فنانون مثل سوبود جوبتا (Subodh Gupta) إلى رمزية الأشياء اليومية (Subversive Symbolism) (Naac - MIT ADT University, 2021).
آلية التعويض: استخدام أواني المطبخ العادية كـ "مواد مصدر" لإنشاء منحوتات ضخمة. هذه الأواني (المألوفة والمُتداولة) تُصبح مجازاً لـ "العنف المُجتمعي" و**"التوتر الطبقي"**. المجاز هنا يُعوض عن غياب القدرة على نقد القومية بشكل صريح، ويُحوِّل الأشياء المُستهلكة إلى بيانات سياسية صامتة.
🇪🇸 بيكاسو وغورنيكا: مجاز الألم المُطلَق
تُعد لوحة "جورنيكا" (Guernica) لـ بابلو بيكاسو (Pablo Picasso) مثالاً كلاسيكياً على المجاز كتعويض عن الكلمة الممنوعة. اللوحة لم تصور الطائرات أو الجنود أو أعلام القتلة مباشرة، بل استخدمت:
مجاز التشويه والتكعيبية: الوجوه المُتألمة، والأيدي المقطوعة، والأبقار المُشوهة.
الوظيفة التعويضية: التعويض عن غياب القدرة على محاكمة نظام فرانكو الفاشي ومُحرضي قصف المدينة. اللوحة تُنشئ مجازاً لـ "الألم المُطلَق" و**"الفوضى الإنسانية"** التي تتجاوز حدود الجغرافيا والتاريخ، مما يجعلها نقداً سياسياً عالمياً لا يمكن للرقيب الإسباني المحلي حصره أو إسكاته (LatAm ARTE, 2025).
استراتيجيات المجاز البصري للتلاعب بالوعي الجمعي
إن نجاح المجاز البصري كتعويض عن الكلمة الممنوعة يعتمد على قدرته على التلاعب بآليات الإدراك وخلق "إجماع ضمني" بين الفنان والجمهور. هذه الاستراتيجيات البلاغية (Rhetorical Strategies) تُفضي إلى تشكيل "بؤرة مُقاومة" في الوعي الجمعي.
🤯 الإلغاز البلاغية والمشاركة الجماهيرية
يعتمد المجاز البصري الفعّال على "الحذف البلاغي" (Rhetorical Ellipsis) الذي يتطلب من المُتلقي "ملء الفراغ" لإكمال المعنى (Montclair State University Digital Commons, 2017).
- المشاركة الإدراكية: عندما يُجبر العمل الفني الجمهور على التفكير لفك شفرة الرمز (مثلاً، ماذا يُمثل "الغراب الأسود" في اللوحة؟)، فإن هذه العملية تُنشئ "رابطة ذهنية" أعمق بكثير من مجرد قراءة كلمة مُباشرة. هنا، يُصبح المجاز التعويضي وسيلة لـ "تنشيط" (Activation) المُتلقي وتحويله من مُستهلك سلبي إلى شريك فعال في عملية النقد.
- تأسيس السردية البصرية: يُنشئ المجاز سيناريوهات سردية (Metaphor Scenarios) مُعقدة، تُغني عن السرد المكتوب. على سبيل المثال، تصوير "الوطن" كـ "أم مريضة" يُنشئ سردية بصرية كاملة عن المرض، والعجز، والحاجة للرعاية، مُعوضاً عن الحاجة إلى مقالات تحليلية مُطولة (TOUMI, 2022).
التحول من التعبير السياسي إلى التعبير الاجتماعي
عندما تشتد الرقابة السياسية (كما حدث مع الكاريكاتير الفرنسي في ثلاثينيات القرن التاسع عشر)، يتحول الفنانون بمهارة إلى الكاريكاتير الاجتماعي (Social Caricature) (image+, 2024).
التعويض غير المباشر: بدلاً من نقد الملك أو الرئيس، يتم نقد "التاجر الجشع"، "الزوج الخائن"، أو "الظواهر الاجتماعية السلبية". هذه الأعمال تُعوض بشكل غير مباشر عن غياب النقد السياسي، حيث يتم إسقاط الصفات السلبية للسلطة على شخصيات اجتماعية مُتداولة. يسمح هذا بـ "تنفيس" (Catharsis) الغضب العام وإبقائه مُفعَّلاً، حتى لو كان مُوجهاً نحو قضايا اجتماعية ظاهرية.
هذا الفيديو يناقش تاريخ وواقع الرقابة في الفن والأسباب التي تدفع الفنانين للمقاومة وتقديم فنونهم المبتكرة رغم التحديات: Censorship and Artistic Expression | Everyday Forum Podcast.
الخلاصة والتأثير المُعزز للحرية
يُثبت التحليل الأكاديمي أن المجاز البصري ليس مجرد تقنية فنية، بل هو آلية للبقاء والإبقاء على النقد في المجتمعات المُقيِّدة. إنه يُعوض بذكاء عن غياب الكلمة الممنوعة من خلال استغلال سيولة المعنى البصري وقابلية الإنكار المعقولة. الفن، عندما يكون مُشفَّراً بالمجاز، يُصبح "سلاحاً صامتاً" يُدمج النقد في الوعي الجمعي، مما يضمن أن الذاكرة النقدية لا تُطمس، بل تُعاد كتابتها على شكل رموز (DRS Digital Library, 2024). إن العلاقة بين الرقابة والفن هي علاقة جدلية مُستمرة، حيث كلما زادت الرقابة، زاد إبداع المجاز في التعبير.
كلمات البحث: فن الرقابة، المجاز البصري، التعويض السيميائي، الخطاب البصري، نظرية الاستعارة المفاهيمية، المقاومة الفنية، التعبير المكبوت.المصادر الأكاديمية (APA 7th Edition)
Bowdle, B. F., & Gentner, D. (2005). The career of metaphor. Psychological Review, 112(1), 193.
DRS Digital Library. (2024). Visual Rhetoric and the Special Eloquence of Visual Form.
Fiveable. (n.d.). Censorship, subversion, and transgression in performance.
International Journal of Education and Humanities. (2025). Breaking the Taboo: The Role of Visual Metaphors in Reshaping Profanity in Online Communication.
Jones, R. H., Chik, A., & Hafner, C. A. (2015). Discourse and digital practices: Doing discourse analysis in the digital age. Routledge.
Lakoff, G., & Johnson, M. (1980). Metaphors we live by. University of Chicago Press.
LatAm ARTE. (2025). Art as Resistance.
Montclair State University Digital Commons. (2017). Strategies to Manage Censorship Issues and Controversies in Museums.
Naac - MIT ADT University. (2021). Subversive Symbolism: Political Metaphors in Contemporary Indian Art.
Phillips, B. J., & McQuarrie, E. F. (2002). The imagery vividness effect: The role of prior advertising exposure. Journal of Advertising, 31(3), 48–56.
TOUMI, S. (2022). Censuring the Censors: Metaphor and Metonymy in Algerian Newspaper Cartoons about Censorship Published during the Civil War (1992-2002). (Doctoral Thesis, Cardiff University).

Post A Comment:
لا توجد تعليقات بعد، كن أول من يعلّق