هل الفن مجرد جمال، أم صوت الحقيقة. نفتح أبواب الصمت حول كيف عبّر الفن عن كل القهر والكبت الانساني، نكتشف الحقيقة المخفية في الفن والقوة الناعمة.
«أنا أنطق بما لا تجرؤ أنت على التفكير فيه.» – دوستويفسكي، هكذا قالها بشكل صريح، كأنه ألقى سهماً أصاب به الحقيقة المخفية في الفن، لم يكن الأديب والمفكر بطلا خارق بل امتلك سلاح سري وهو القوة الناعمة في الفن. جملة دوستويفسكي هذه ليست مجرد إعلان جريء، بل تعريف شامل للفن، ذلك الذي يُجيد التعبير نيابةً عن الضعفاء والمُهمَّشين والمقموعين. الفن الصادق هو جريمة تأمل، وجرأة فكر، وحق مسلوب يستعاد من تحت الأنقاض.
![]() |
Pallas Athena. oil painting created by Austrian painter Gustav Klimt in 1898. |
الفن كضرورة إنسانية أم ترفًا ثقافياً؟
دائمًا ما تُقدَّم أهمية الفن في الخطاب المؤسسي عبر عبارات نمطية مريحة: الفن وسيلة لتجميل الحياة، الفن يساهم في التربية، الفن أداة للتثقيف، الفن صديق البيئة، الفن رافعة للهوية الثقافية... وغيرها من "التعريفات الآمنة". لكن هذه الرؤى المجتزأة، وإن كانت صحيحة جزئيًا، لا تُقارب جوهر الفن كقوة كامنة تزلزل المسكوت عنه وتُصيب النظام في هشاشته.
الفن ليس فقط أداة تعليم، بل أداة كشف، وأحيانًا فضح، وأحيانًا تحريض. الفن ليس مرآةً ناعمةً للواقع، بل مطرقةٌ قد تحطم تلك المرآة وتُرينا ما خلفها.
الفن ليس ترفًا: بل هو الحاجة للنجاة من الصمت، عندما يُقدَّم الفن على أنه ملاذ من الجماليات، أو لغة للتعبير الثقافي، أو حتى وسيلة تربوية. لكن هذه التوصيفات – رغم أنها صحيحة من الناحية المؤسسية – تُسطّح الدور الأخطر والأعمق للفن:
أنه وسيلة ناجية من الرقابة، من النفاق الجمعي، من الخوف الاجتماعي، ومن الرعب السياسي.
عندما تُخنق الكلمة، يتكلم الشاعر
عندما يُمنع الصوت، يتكلم الجسد.
وحين يُصادَر العقل، يصرخ الرمز.
الفن أداة ضد الصمت الجماعي
في المجتمعات المقموعة سياسيًا أو اجتماعيًا، حيث تُمنَع الكلمات وتُراقب الأفكار وتُعاقَب النوايا، يصبح الفن المنفذ الوحيد للتعبير عن الرغبة المكبوتة في المقاومة. هنا لا يعود الفن ترفًا، بل يتحول إلى لغة بديلة يقول بها الإنسان ما لا يستطيع قوله علنًا.
- قد لا تقدر امرأة على الحديث عن قمعها الأسري، لكنها ترسم.
- قد لا يستطيع كاتب أن يُهاجم النظام، لكنه يُسقطه في رواية أو لوحة أو مسرحية.
- قد لا يجرؤ المجتمع على نقد عاداته، لكنه يضحك على نفسه في كاريكاتير حاد.
الفن هنا يتحول إلى ضوء سرّي يتسلل من شقوق الرقابة. كلما اقترب الفن من الصمت، اقترب أكثر من الحقيقة. الفن لا يصرخ. لا يدافع عن نفسه. لا يطلب التصفيق. لكنه دائمًا هناك… مثل ظلّ داخل العقل، مثل جملة لم يُتَح لك قولها.
منذ الكهوف الأولى، حين نقش الإنسان أفعاله على الجدران، لم يكن يبحث عن الجمال بل عن الإفصاح. عن تسجيل مشهد صيد، أو خوف، أو رغبة. هذه الحاجة للتعبير عن الممنوع قبل المسموح، هي ما جعلت الفن لغة للمكبوت، ومرآةً للتابو الجماعي.
عندما يهزأ الفن من الديكتاتور… في حضرته
قيمة الفن أنه قادر على مخاطبة السلطة دون أن يمنحها فرصة الرد. من منا لم يشاهد عملاً مسرحيًا أو رسمة كاريكاتيرية تُهين طاغية أو مسؤولًا كبيرًا... لكن دون أن يُذكر اسمه صراحةً؟ إنها القوة الرمزية التي يمتلكها الفنان حين يلعب على الحافة، فيقول الشيء ونقيضه، ويُغضب من يبتسم، ويضحك من يجب أن يغضب.
الفن والذاكرة الجمعية: من الرقابة إلى الأرشفة
الأنظمة القمعية تستطيع أن تحجب الصحف، وتمنع الكتب، وتُسكت المعارضين. لكنها تفشل أمام التلميح البصري والرمز الفني. لهذا كان الفن عبر العصور هو الأرشيف الحقيقي للوجع الشعبي.
من لوحات غويا التي سجّلت رعب الحروب الإسبانية، إلى رسوم عبد الهادي الجزار التي صوّرت القهر الطبقي، إلى جداريات الثورات التي وُلدت في الشوارع واختفت بسرعة، لكن بقي أثرها حيًا.
الفن لا يُزَيِّن الواقع... بل يعرض اشكال من الواقع: حين نُعرّف الفن في كتب المدارس على أنه وسيلة لـ"نشر الثقافة" أو "دعم التربية" أو "تعزيز الوعي البيئي"،هذا ليس تعريف الفن بل تعريف لاستخدامات الفن، الفن الحقيقي هو الوحش الذي يعيش بالداخل، لذلك فإننا نرتكب جريمة ترويض.
الفن لا يُقتل. فقط يُقنَّع.
وحين يكتمل القناع، يبدأ الصراخ الحقيقي.
ما لا يُقال بالسان يتجسد بالفن
نحن لا نحتاج الفن ليُخبرنا بما نعرفه، بل نحتاجه ليكشف لنا ما نخاف أن نعرفه.
حين يعجز الخطاب الرسمي عن الاعتراف بالخطأ، يرسم الفنان عارنا على الجدران.
حين يتحول الإعلام إلى أداة دعاية، يصير الفن أداة فحص ضمير.
الفن لا يعطي الحلول، لكنه يُجبرنا على النظر في المرايا التي هربنا منها طويلًا.
حين تُصبح اللوحة صرخة
انظر إلى لوحة "الثالث من مايو 1808" لفرانثيسكو غويا.
لا تصف المشهد فقط، بل تفضح النظام الإمبراطوري، وتُدين الاستعمار، وتُخلِّد الرعب الشعبي.
الضوء في اللوحة يتركز على جسد الضحية – يده ممدودة في وضعية صليب – ليُحيلك فورًا إلى أيقونة المسيح، لكن المسيح هنا ليس إلهًا... بل فلاح إسباني يُعدَم لأنه قاوم.
لوحة بلا عنوان سياسي صريح، لكنها فعل مقاومة صامتة.
وغويا لم يكتفِ بها. في "كابريتشوس" – سلسلته الجرافيكية الساخرة – رسم كوابيس اجتماعية، نساءً مكسورات، رجال دين مشوهين، أطباء يغطون الجرائم، أفاعي تسكن المكاتب.
بلا نص، وبلا شرح، الفن أصبح اعترافًا في محكمة لا أحد يجرؤ على دخولها.
الفن كمرآة سوداء للمجتمع
لو نظرنا إلى لوحة “الصرخة” لإدفارد مونك، لا نجد حادثة واضحة، فقط رجل على جسر يصرخ في الفراغ، بينما الطبيعة تذوب حوله.
تبدو الصورة تعبيرًا عن الجنون، لكنها في الحقيقة انعكاس عميق لحالة القلق الوجودي الذي شعر به مونك – والقرن التاسع عشر بأسره – مع صعود الحداثة، وتفكك الدين، وانهيار المعنى.
مونك كتب في مذكراته: "سمعت صرخة لا نهائية تمر عبر الطبيعة".
وهكذا حول اللحظة النفسية إلى لغة كونية. لوحة واحدة صارت تعبيرًا عن ملايين البشر الذين يصرخون داخلهم دون صوت.
عن الدين دون حديث عن الدين
انظر إلى أعمال هيرونيموس بوش، خاصة لوحة "حديقة المباهج الأرضية".
هذه اللوحة الغريبة، المليئة بالمخلوقات الغرائبية والرموز الجنسية والتفسيرات اللاهوتية المقلوبة، ليست مجرد سرد ديني... بل نقد ساخر للمعاصي التي يبررها التدين الزائف.
أو انظر إلى لوحة "العشاء الأخير" لدافنشي، التي – برغم رمزيتها الدينية – تُمثّل لحظة بشرية خالصة:
الخيانة، الذعر، الارتباك.
الأجساد تتحرك بقلق، الأيادي متوترة، والوجوه مترددة.
إنها لحظة تُعيد للأنبياء إنسانيتهم، وللمقدس واقعيته.
عن الجنس دون فُجور
في زمن القمع الفيكتوري، لجأت فنانات مثل جورجيا أوكيف في أميركا، إلى رسم الأزهار والمحار والقواقع.
ظاهريًا لوحات "طبيعة صامتة"، لكن تفكيك الرموز البصرية يكشف إيحاءات قوية عن الأنوثة، الرغبة، الجسد.
لم يكن بإمكان النساء الحديث صراحة عن رغباتهن… فرسمنها.
الفن هنا لم يُجمل الرغبة بل أعاد امتلاكها.
السياسة بين الكلمة والصورة
في لوحة "جورنيكا" لبيكاسو، لا توجد أعلام، ولا جنود، ولا قادة. فقط ثور، حصان، أم تصرخ، وطفل ميّت.
لكن هذه اللوحة صارت الرمز الأبدي لمجزرة الحرب الأهلية الإسبانية.
الصراخ، القهر، السحق... لا يُكتب، بل يُرسم.
وقد قال بيكاسو ذات مرة حين سأله ضابط نازي عن "جورنيكا":
"هل أنت من فعل هذا؟"
فرد بيكاسو: "لا، أنتم من فعلها."
الفن إذًا، لا يُطبطب… بل يُفجّر
"الفن إما أن يكون مطرقة... أو لا شيء." – برتولت بريشت
هذا هو الدور الذي ننساه حين نتحدث عن الفن بوصفه "صديق البيئة" أو "أداة تهذيب للأطفال".
الفن قد يكون سكينًا في خاصرة السلطة، أو ضوءًا في كهف الممنوع، أو حتى ضحكة مدوية في جنازة قومية.
الفن ينطق... لأن أحدًا لا يجرؤ أن يتكلم
في النهاية، ليست وظيفة الفن أن يشرح لك كيف تعيش، أو أن يُرشدك للطريق المستقيم.
بل أن يفتح نوافذ على الطرق التي أُغلقت عمدًا، وأن يُحرّك المياه التي جُمّدت خوفًا.
الفن هو ذلك الشخص الجريء الذي يصرخ في غرفة صامتة:
"أنتم تكذبون."
ثم يعود للجلوس... وكأن شيئًا لم يكن.
✴ خاتمة: الفن كجريمة نبيلة
في مجتمعات لا تزال تخاف من النقد، وتجرّم الرأي، وتعتبر الصمت فضيلة، يتحول الفن إلى جريمة نبيلة.
نعم، الفن يُربّي ويُثقّف ويُجمّل ويُلهِم…
لكن قبل كل شيء، هو يفضح.
Post A Comment:
0 comments so far,add yours