اكتشف العلاقة بين الفن والأسطورة. كيف ترجمت هذه اللوحات الأساطير والميثولوجيا في مختلف الحضارات، وتشكيل الوعي الجمعي للشعوب من خلال الفنون.

منذ فجر الوعي البشري، كانت الأسطورة هي الأداة التي استعان بها الإنسان لفهم الكون، تفسير الظواهر الطبيعية، وتحديد موقعه في هذا العالم. تلك القصص الرمزية المتداخلة مع المعتقدات الدينية والتصورات الفلسفية وجدت انعكاسها البصري في الفنون، أصبحت اللوحات الفنية بمثابة وثائق مرئية تخلّد الميثولوجيا بكل ما تحمله من رموز ومعانٍ. لا تُعدّ هذه اللوحات مجرّد تجسيد لشخصيات خيالية أو آلهة منسية، بل نافذة على منظومات فكرية كاملة شكلت الثقافة البشرية على مرّ العصور. تهدف هذه المقالة إلى دراسة كيف جسدت اللوحات الفنية ميثولوجيا الحضارات القديمة، عبر تحليل أمثلة بارزة من تاريخ الفن، وتقديم قراءة أكاديمية لفهم البعد الرمزي والثقافي لتلك الأعمال.


Mythological Paintings، الفن والأسطورة
لوحات الأساطير والميثولوجيا في مختلف الحضارات

الفن والأسطورة

منذ فجر التاريخ، كانت الأساطير والميثولوجيا حجر الزاوية في تشكيل الوعي الجمعي للشعوب. وقد وجدت هذه القصص طريقها إلى الفنون البصرية، حيث أصبحت اللوحات الفنية وسيلة لتجسيد المعتقدات والرموز التي تعبر عن هوية الحضارات القديمة. في هذا المقال، نستعرض كيف جسّدت اللوحات الفنية ميثولوجيا الحضارات القديمة.

الميثولوجيا بوصفها منبعًا للفنون البصرية

الميثولوجيا لا تُفهم فقط بوصفها مجموعة من الحكايات الخارقة، بل كمنظومة ثقافية وفلسفية تعبّر عن فهم الإنسان لذاته ولمحيطه. وقد وفّرت هذه المنظومات قاعدة خصبة للفنانين عبر التاريخ، الذين استلهموا منها موضوعاتهم وأشكالهم ورموزهم. من الجداريات النحتية إلى الرسم الزيتى، كانت الميثولوجيا مصدرًا غنيًا للتمثيل الفني، خاصة وأنها تتيح إمكانيات لانهائية للرمز والتأويل.

الميثولوجيا في الفن الإغريقي والروماني

في الحضارتين الإغريقية والرومانية، كانت الأساطير تشكل جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية التي تظهر في المعابد وفنون النحت وتجسيد الآلهة، هذه الثقافة هي بنية اساسية في العديد من الفنون البصرية، وقد انعكس ذلك على الفنون في اوائل عصر النهضة. على سبيل المثال، لوحة "ولادة فينوس" لسندرو بوتيتشيلي تصور الإلهة فينوس وهي تخرج من البحر، مما يعكس أهمية الجمال والحب في الميثولوجيا الإغريقية.

الأساطير المصرية في الفنون

في مصر القديمة، كانت الأساطير مرتبطة بالديانة والمعتقدات حول الحياة بعد الموت. وقد جسدت الفنون المصرية هذه المعتقدات من خلال الجداريات والتماثيل التي تصور الآلهة مثل أوزوريس وإيزيس. تُظهر هذه الأعمال الفنية كيف كانت الميثولوجيا جزءًا لا يتجزأ من الهوية الثقافية والدينية للمصريين القدماء .

الميثولوجيا المصرية القديمة: الرمز الكوني في التصوير الجداري، في الحضارة المصرية القديمة، لم تكن الميثولوجيا منفصلة عن العقيدة، بل كانت جزءًا من المنظومة الكونية اليومية. الآلهة مثل إيزيس، أوزوريس، حورس، وأنوبيس لم تُصوَّر فقط ككيانات روحية، بل كشخصيات لها وظائف محددة في الكون، ما جعل الفن المصري حافلًا بالرموز. يظهر ذلك جليًا في الرسوم الجدارية للمقابر والمعابد، والتي لم تكن مجرد تزيين بل أدوات سحرية لضمان الخلود.

مثال: The Judgment of Osiris، محاكمة الموتى أمام أوزوريس.


محاكمة الموتى أمام أوزوريس
محاكمة الموتى أمام أوزوريس

الوصف: بردية هانوفر، لوحة من كتاب الموتى المصريالسنة: حوالي (حوالي 1300 ق. م)، تصور محاكمة الروح أمام الإله أوزوريس، وهي تمثل معتقدات المصريين القدماء حول الحياة بعد الموت.

الميثولوجيا الهندوسية والبوذية: تعدد الآلهة وتكثيف الرموز

تُعدّ الميثولوجيا الهندوسية من أكثر الأنظمة الأسطورية غزارةً في العالم، وقد انعكست بشكل كبير في الفنون الهندية، سواء في اللوحات الجدارية داخل المعابد أو في المنمنمات. تُظهر لوحات الآلهة مثل شيفا، فيشنو، لاكشمي، وكريشنا تنوّع الأدوار والمفاهيم الرمزية: الخلق، التدمير، الحب، الحكمة، والنعمة. كذلك الحال في البوذية، حيث جُسّدت قصص حياة بوذا وأساطير بوديساتفا في جداريات كهوف آجنتا وإلورا.

الميثولوجيا في الفن خلال عصر النهضة

شهد عصر النهضة الأوروبية اهتمامًا متجددًا بالميثولوجيا الكلاسيكية، حيث استخدم الفنانون الأساطير كوسيلة لاستكشاف الموضوعات الإنسانية. على سبيل المثال، استخدم فنانون مثل ميكيلانجيلو ورافائيل الأساطير لتصوير مفاهيم مثل الحب، الجمال، والصراع.

الميثولوجيا الإغريقية والرومانية في لوحات عصر النهضة: ربما كانت الميثولوجيا الإغريقية والرومانية أكثر الأساطير تجسيدًا في تاريخ الفن، خاصة خلال عصر النهضة الذي أعاد إحياء النموذج الكلاسيكي. استخدم فنانو تلك المرحلة الأسطورة كوسيلة لإعادة تأكيد القيم الجمالية والفكرية للعالم القديم. ومن أبرز الأمثلة على ذلك لوحة "ولادة فينوس" لسندرو بوتيتشيلي (1486)، التي تعكس مفهوم الجمال المثالي والأنوثة المقدسة.

كما قدّم تيتيان في لوحاته مثل "باخوس وأريادني" (1523) قراءة شعرية لعلاقة الإنسان بالآلهة، بينما لجأ روبنز إلى الأسطورة ليُبرز الدينامية الجسدية والانفعالات النفسية كما في "اختطاف بروزرپينا". في كل هذه الأعمال، تحضر الأسطورة ليس كمادة تزيينية، بل كبنية فكرية تُحمّل اللوحة معاني متعددة.


Bacchus and Ariadne , Titian
Bacchus and Ariadne (1522–1523). oil painting by Titian.176.5 cm × 191 cm. Location National Gallery, London

الميثولوجيا في الحضارات الأمريكية ما قبل الكولومبية

امتلكت حضارات المايا، الأزتك، والإنكا أنظمة ميثولوجية غنية، وقد عبّرت عنها في فنونهم التصويرية والنحتية. لم تكن هذه الميثولوجيات معروفة على نطاق واسع في الفن الغربي حتى القرنين التاسع عشر والعشرين، حين بدأ الفنانون الغربيون يكتشفون الرموز البصرية للثقافات الأخرى. تُظهر الجداريات والنقوش المعقدة للمايا، مثل مشهد الإله كيتزال كواتل، فهمًا عميقًا لدورة الحياة والموت، وعلاقة الإنسان بالقوى الكونية.

الرمز الميثولوجي في الفن الحديث والمعاصر

حتى في الفن الحديث والمعاصر، لم تتراجع الميثولوجيا، بل تحوّلت إلى لغة رمزية تُستخدم لإيصال مضامين فلسفية أو وجودية. استخدم بيكاسو رموزًا ميثولوجية في أعماله كما في "غورنيكا"، التي تحوّل فيها الثور إلى رمز مزدوج للقوة والوحشية. كما استلهمت الفنانة البريطانية ليندا بنديكتسون الميثولوجيا الإسكندنافية لإعادة تفسير تمثلات الأنوثة والقوة في لوحاتها.

تأثير الميثولوجيا على الفنون العالمية

لم تقتصر تأثيرات الميثولوجيا على الحضارات القديمة فقط، بل امتدت إلى الفنون العالمية. في الهند، تُجسد الأساطير الهندوسية في الفنون من خلال تصوير الآلهة مثل فيشنو وشيفا. وفي اليابان، تُعبر الأساطير الشنتوية عن نفسها في الفنون التقليدية من خلال تصوير الكامي (الآلهة) .


تحليل بصري لأعمال فنية في ميثولوجيا الحضارات

يتطلب فهم الميثولوجيا في الفن أكثر من معرفة الحكاية، بل قراءة بصرية متأنية للرموز، الألوان، التكوين، والعلاقات البصرية. على سبيل المثال، في لوحة "جوديث وقطع رأس هولوفرنيس" لأرتيميسيا جنتيلسكي، تحوّلت الأسطورة إلى بيان عنيف عن القوة النسوية. بينما في "تحوّلات أبولو ودافني" لجيان لورينزو بيرنيني (Gian Lorenzo Bernini)، نرى كيف تُجسّد الأسطورة لحظة تحوّل جسدي وروحي يتقاطع فيه الألم بالتحرر.


Apollo and Daphne
Gian Lorenzo Bernini.Apollo and Daphne. height: 243 cm.

سيرين وألكونوست (The Sirin and Alkonost)

الوصف: تستند اللوحة إلى الميثولوجيا السلافية، حيث تظهر شخصيتان أسطوريتان: سيرين، رمز الحزن والموت، وألكونوست، رمز الفرح والسعادة. وهي كائنات طائرة نصفها امرأة ونصفها طائر. تصوّر هذه اللوحة الطيور الأسطورية سيرين وألكونوست من الفولكلور السلافي، حيث تمثل سيرين الحزن وألكونوست الفرح.


Viktor Vasnetsov Sirin and Alkonost
 للفنان الروسي فيكتور فاسنيتسوف 1896– طيور الفرح والحزن.

طيور الفرح والحزن.– سيرين وألكونوست Sirin and Alkonost: The Birds of Joy and Sorrow. السنة: 1896، للفنان الروسي فيكتور فاسنيتسوف (Viktor Vasnetsov)

التحليل الفني: اعتمد فاسنيتسوف على الأسلوب الرمزي والألوان الزيتية الداكنة مع خلفية طبيعية تعكس البرية الروسية. يوظف الفنان الخطوط المنحنية والتفاصيل الزخرفية بدقة تعبيرية، ليجسد التناقض بين الحياة والموت، وبين الأمل واليأس.

الدلالة الثقافية: تمثل اللوحة فكرة الثنائيات في الميثولوجيا السلافية، وقد ساهمت في ترسيخ رموز التراث الروسي في الفن الحديث خلال فترة ما قبل الثورة البلشفية.

لوحة: dualidad، الثنائية

جدارية dualidad: للفنان  Rufino Tamayo، من المتحف الوطني للأنثروبولوجيا، هي جدارية ملونة بشكل مذهل، تم رسمها في عام 1964، وتقع في بهو قاعة خايمي توريس بوديت. ابعاده 3.53 × 12.21 مترًا.


لوحة dualidad، rufino tamayo
rufino tamayo، dualidad (1964)

جدارية dualidad (1964): للفنان المكسيكي روفينو تامايو (Rufino Tamayo)، استلهم تامايو إلهامه من علم الكونيات "الناواتل" المتمثل في التوازن والتكامل لإضفاء الحياة على هذا التفسير الشخصي للأساطير ما قبل الكولومبية. "إنه صراع العناصر التي تؤدي إلى الحياة: من جهة، الخير والحكمة والنور... ومن جهة أخرى، الشر والظلام".

تمثل هذه اللوحة الإله الأزتيكي كويتزالكواتل، المعروف بـ"الأفعى ذات الريش"، وهو رمز للمعرفة والتجدد في الميثولوجيا المكسيكية. بألوان زاهية، والجسم شبه ملفوف والفم مفتوح يقترب من نقيضه مع ارتفاع الشمس فوقه. الليل حاضر مع الإله تيزكاتليبوكا في شكل جاكوار، على خلفية من الألوان الباردة، مع هبوط القمر ونجوم الدب الأكبر كمسرح ليعرض الجاكوار شراسته، ويهاجم الثعبان بالمخالب والأسنان. وبينما تتقاتل هذه الحيوانات، تضاء السماء مع بزوغ الفجر، وتختلط الألوان الحمراء والزرقاء في المركز مثل صدام الألوان الناجم عن القتال.

التحليل الفني: يُبدع تامايو نسخته التصويرية الخاصة، القوية في اللون والتعبير: "مشهد القتال، وفتح الحيوانان فكيهما لتهديد بعضهما البعض. يتلاشى التوتر في وسط الجدارية عند أطراف القماش، حيث يتماهى المذكر والمؤنث مع الشمس والقمر، مع الليل والنهار، مع الحياة والموت" استخدم تامايو مزيجاً من التكعيبية والتجريد الرمزي،  مطعماً بالألوان الدافئة كالأحمر والبرتقالي لتجسيد الطاقة والنار، بينما استخدم الأزرق للربط مع السماء والروحانية.

الدلالة الثقافية للأسطورة: تعكس هذه اللوحة التواصل بين الأسطورة الأصلية والحضارة الحديثة، وتسعى إلى إعادة ربط المكسيك المعاصرة بتراثها ما قبل الكولومبي.

رسم توضيحي من قصة جينجي ،The Tale of Genji


The Tale of Genji ,Tosa Mitsuoki
Genji : Tosa Mitsuoki

رسم توضيحي لقصة جينجي: الفصل 20 - أساجاو، يُنسب إلى توسا ميتسوكي (1617-1691)، وهو جزء من ألبومات بيرك، The Tale of Genji الفنان الياباني: Tosa Mitsuoki، السنة: حوالي 1650.

الوصف: جزء من سلسلة لوحات تصور مشاهد من رواية "حكاية غينجي"، والتي تحتوي على عناصر ميثولوجية وشخصيات خيالية من الأدب الياباني الكلاسيكي.

🔆 تُظهر هذه الأعمال كيف تُعيد الفنون التشكيلية رسم حدود الهوية الثقافية من خلال الميثولوجيا. ومن روسيا إلى مصر، ومن أميركا اللاتينية إلى آسيا، تصبح الأسطورة مادة خاماً للتعبير البصري المتجدد، يعيد صياغتها الفنانون بأساليب تتفاعل مع الذاكرة الجمعية والتحديات المعاصرة.

بين التلقي والأسطرة: كيف أثرت هذه اللوحات على الوعي الجمعي؟

لم تُنتج هذه اللوحات لتُعلّق في المتاحف فقط، بل لأداء وظائف ثقافية واجتماعية عميقة. من خلال إعادة صياغة الأساطير بصريًا، ساهمت في بناء مخيال جمعي وفهم مشترك للكون، الجمال، الهوية، والتاريخ. وقد امتدت هذه الوظائف إلى اليوم، حيث لا تزال هذه اللوحات تُستخدم في التعليم، الإعلانات، السينما، والمسرح.

الخاتمة: الفن كوسيلة لفهم الميثولوجيا

تُظهر اللوحات الفنية التي جسدت ميثولوجيا الحضارات القديمة كيف يمكن للفن أن يكون وسيلة لفهم المعتقدات والرموز التي شكلت هوية الشعوب. من خلال دراسة هذه الأعمال الفنية، يمكننا الحصول على نظرة عميقة على كيفية تفاعل الإنسان مع الأسطورة، وكيف استخدم الفن كوسيلة للتعبير عن المعتقدات الثقافية والدينية.

لوحات ميثولوجيا الحضارات القديمة ليست فقط تحفًا فنية، بل وثائق رمزية تشهد على انشغالات الإنسان عبر العصور: من أسئلته الوجودية إلى مفاهيمه عن الآلهة، القدر، والخلاص. إنها لغة كونية تتجاوز الزمان والمكان، وتتحدث إلينا بلغة الصورة والرمز. إن دراسة هذه الأعمال تفتح لنا آفاقًا لفهم الذات البشرية في بعدها الرمزي والثقافي.


المصادر الأجنبية:

"Classical Mythology in Western Art" - The National Gallery of Art, USA.
"Myth and the Arts" - Encyclopædia Britannica.
"The Influence of Mythology on Art" - Cambridge University Press.
"The Art of Ancient Egypt" - The Metropolitan Museum of Art.
"Indian Mythology and Art" - Oxford University Press.
"Pre-Columbian Art and Mythology" - Getty Research Institute.
"Modern Artists and Myth" - Tate Modern Archives.
"The Body in Pain: The Making and Unmaking of the World" - Elaine Scarry (related to symbolic representation in visual myths).


مواضيع مهمه
الميثولوجيا
مواضيع متنوعة:

Share To:

About Me

Mohamed Magdy is a fine artist, professional in oil painting, classic furniture and decor designer, writer, and researcher in the humanities. .Follow me

Post A Comment:

backtotop

الموافقة على ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط ليقدم لك تجربة تصفح أفضل. باستخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط

قراءة المزيد