نموذج الثمرة الدائرية – لفهم التباين الطبقي في العصر الحديث

نموذج الثمرة الدائرية يكسر الجمود في التحليلات الاجتماعية، مقدماً إطاراً إبداعياً لفهم ديناميكيات الطبقات الاجتماعية مع تحليل أكاديمي لواقع المجتمعات.

ماذا لو نظرنا إلى المجتمع لا كهرم، بل كثمرة؟، لقد اعتدنا على رؤية العالم من خلال صورة بسيطة، تُشبه الهرم. على قمة هذا الهرم، تقف أقلية تمتلك الثروة والسلطة. وفي وسطه، تتمركز طبقة وسطى تعمل كعازل اجتماعي. وفي القاعدة، توجد الأغلبية التي تتولى مهمة البقاء. لقد منحنا هذا التصور شعوراً بالوضوح، بتسلسل منطقي يفسر التفاوت. ولكن، هل كان هذا الهرم حقاً مرآة للواقع، أم أنه كان مجرد انعكاس لما أردنا أن نراه؟، إن هذا النموذج، رغم بساطته، يعجز عن تفسير الكثير من الظواهر التي


The Social Anatomy Model, نموذج الطبقات الاجتماعية
نموذج الثمرة الدائرية

هل يمكن أن يفسر لنا هذا الهرم لماذا تتآكل الطبقة الوسطى بشكل مطّرد في المجتمعات الحديثة؟ هل يظهر لنا بوضوح كيف أن ثروة الطبقة العليا تتضخم دون أن يكون لها بالضرورة أي علاقة بإنتاج حقيقي أو عمل ملموس؟ والأهم من ذلك، هل يصور لنا حقيقة المخاطر التي تقع على كل طبقة؟ فبينما يواجه من في القاعدة خطر فقدان أساسيات الحياة، فإن من في القمة قد يواجه، في أسوأ الحالات، خطر خسارة فرصة. أليس هذا فرقاً جوهرياً لا يظهره الهرم؟


ما بعد الهرمية الطبقية، نحو رؤية شاملة للمجتمع

لطالما كان النموذج الهرمي هو التجسيد البصري الأبسط والأكثر شيوعاً لتفسير بنية المجتمع. في هذا التصور، تُوضع الطبقة العليا في القمة، والطبقة الوسطى في المنتصف، والطبقة الدنيا في القاع. ورغم بساطة هذا النموذج وقدرته على توضيح الفوارق في الثروة والسلطة، فإنه يفتقر إلى القدرة على تفسير ديناميكيات التفاعل الحقيقية بين الطبقات، ويكاد يكون صامتاً إزاء علاقات الحماية والتعرض للمخاطر التي تحكم المجتمعات الحديثة. في عالم اليوم، حيث تتداخل العولمة مع الأزمات الاقتصادية والبيئية والسياسية، أصبح هذا النموذج غير قادر على تفسير تعقيدات الواقع. من هنا، ينبعث نموذج الثمرة الدائرية كإطار تحليلي جديد، يفتح آفاقاً لفهم أكثر عمقاً وواقعية. لا يكتفي هذا النموذج بتصوير الطبقات، بل يجسد علاقاتها الوظيفية، ويعكس حالة "صحة" المجتمع أو "مرضه" بطريقة لم تكن ممكنة من قبل. إنه ليس بديلاً بسيطاً للهرمية، بل هو ثورة في طريقة فهمنا للتباين الطبقي.

البنية النظرية لنموذج الثمرة الدائرية

المجتمع بكل أشكاله، يخبرنا أن الواقع أكثر تعقيداً من ذلك. فالتصور الذي يأتي من قمة الهرم غالباً ما يتجاهل واقع القاعدة، والعكس صحيح. إن هذا الانفصال في التعبير لا يمكن للهرم أن يفسره. إنه يصور الطبقات ككيانات منفصلة، لا تتفاعل مع بعضها إلا في علاقة تبادلية بسيطة: العمل مقابل الأجر. ولكن الفن يخبرنا أن هناك علاقة أكثر عمقاً وتعقيداً، علاقة تتضمن النقد، والإلهام، وحتى العداء الصامت.

ربما حان الوقت للتخلي عن هذه المرآة المسطحة. ربما نحتاج إلى إطار جديد، إطار يسمح لنا برؤية المجتمع كنسيج عضوي، ككيان حي يتفاعل وتتدفق فيه العناصر بشكل مستمر، وليس كبناء صلب ومجرد. لعل الكون الذي نعيش فيه، في مداره وأفلاكه، في دورة الفصول وتناغم الكواكب، هو الذي يخبرنا أن الكون مبني على حلقات ودوائر. ونحن في مجتمعنا، لسنا استثناءً.

من الهرم إلى الشريحة الدائرية – ثورة في التصور الطبقي

يعد التحول من النموذج الهرمي إلى نموذج الثمرة الدائرية بمثابة قفزة نوعية في المنهجية التحليلية. فالنموذج الهرمي يفرض منهجية تجزيئية؛ فهو يقتطع كل طبقة لدراستها على حدة، مما يجعله عاجزاً عن فهم الصورة الكلية. على النقيض من ذلك، فإن نموذج الثمرة الدائرية يتبنى منهجاً شمولياً. إن "الشريحة" الواحدة من الثمرة تجمع كل الطبقات الاجتماعية في عينة واحدة، مما يجعلها مختبراً طبيعياً يمكن من خلاله دراسة التفاعل المباشر بين الطبقة "الجوهرية" و"الطبقة القشرية". هذا النهج الشامل يسمح للباحثين ليس فقط بتصنيف الأفراد إلى طبقات، بل أيضاً بفهم كيف تؤثر قرارات كل طبقة على حياة الطبقات الأخرى. على سبيل المثال، يمكن للشريحة أن تظهر كيف يؤثر النمط الاستهلاكي المفرط للطبقة المركزية على توافر الموارد الأساسية للطبقات الدنيا. هذا النمط الجديد من التفكير ينقلنا من مجرد وصف الفجوة إلى تحليل آليات عملها. إنه يقدم رؤية أكثر واقعية وتعقيداً للعلاقات الاجتماعية، ويساعد على تجاوز الأفكار التبسيطية حول التدرج الطبقي.

نموذج الثمرة الدائرية ذات النواة المنفصلة 

هذا هو أكثر اشكل التطرف الطبقي حيث تعزل الطبقة المركزية نفسها عن  باقي المجتمع مكونة مجتمع ثاني، ليصبح داخل المجتمع او الدولة الواحدة مجتمعين، مجتمع من الطبقات الدنيا بكمية كبير والقليل من الطبقات الوسطى، ثم مجتمع النخبة في المركز في شكل يشبه النواة المنعزلة.

هذا الشكل يوضح مدى انقسام المجتمع الواحد، والذي يترتب عليه العديد من الظواهر غير الصحية من تشتت الافكار والتضليل والحقد الطبقي والصراعات، وبالتبعية غياب العدالة الأجتماعية عن المشهد.


الطبقات الأجتماعية في المجتمع الحديث
صورة توضيحية لنموذج الثمرة الدائرية، يوضح كيف تتداخل الطبقات الاجتماعية وتتفاعل في إطار عضوي متكامل

النواة والقشرة: ديناميكية الحصانة والهشاشة

في نموذج الثمرة الدائرية، تقع النواة في مركز الدائرة، وهي تمثل الطبقة المركزية أو النخبة. هذه النواة محمية من جميع التقلبات الخارجية، سواء كانت اقتصادية، سياسية، أو حتى صحية. إنها تتمتع بأقصى درجات الحصانة الاجتماعية والاقتصادية. على الجانب الآخر، توجد القشرة الخارجية، التي تمثل الطبقات الدنيا والمهمشة. هذه الطبقة هي الأكثر تعرضاً لجميع المخاطر، وهي من تتحمل العبء الأكبر من الأزمات. إنها بمثابة الدرع الذي يحمي النواة من الصدمات الخارجية، ولكنها تفعل ذلك على حساب أمنها واستقرارها. هذه الديناميكية هي جوهر النموذج، فهي لا تقيس الثروة والسلطة فقط، بل تقيس أيضاً درجة الأمان والهشاشة. في هذا التصور، لا تكمن قوة النخبة في كونها "في القمة"، بل في كونها "في المركز"، حيث يمكنها التحكم في تدفق الموارد وتوجيهها لضمان بقائها محمية. هذا الانفصال يفسر لماذا يمكن أن تنهار البنى التحتية للمجتمع أو تنهار شبكات الأمان الاجتماعي دون أن تتأثر حياة النخبة بشكل مباشر. إنها فكرة جوهرية تختلف تماماً عن فكرة "القائد في المقدمة".

الطبقة الوسطى: لب الثمرة أم حلقة التآكل؟

تقع الطبقة الوسطى بين النواة والقشرة، وهي تلعب دوراً حاسماً في استقرار النموذج بأكمله. يمكن أن تعمل الطبقة الوسطى كـ "لب" صلب يربط جميع أجزاء الثمرة ببعضها، مما يضمن التماسك الاجتماعي ويقلل من حدة الصراعات الطبقية. وجود طبقة وسطى قوية يمنح الأفراد في الطبقة الدنيا أملاً في الحراك الاجتماعي ويقلل من الشعور بالغبن.

ولكن في سيناريو آخر، يمكن أن تتحول الطبقة الوسطى إلى "حلقة تآكل" أو "منطقة كدمات". هذا يحدث عندما تتعرض للضغوط الاقتصادية، فتبدأ في التقلص وتندمج مع الطبقات الدنيا. هذا التقلص لا يؤدي فقط إلى زيادة حجم الطبقات الدنيا، بل يؤدي أيضاً إلى فقدان المجتمع لـ "عازله" الاجتماعي. عندما يتآكل هذا اللب، تصبح النواة في مواجهة مباشرة مع القشرة المتضخمة، مما يزيد من احتمالية الصراعات. هذا التصور يتوافق مع نظرية تجويف الطبقة الوسطى (Hollowing Out the Middle Class) التي يلاحظها الاقتصاديون في العديد من المجتمعات الحديثة. يمكن تفسير هذا التآكل من خلال التحولات الاقتصادية مثل الأتمتة، والعولمة، وظهور اقتصاد العمل المؤقت (Gig Economy) الذي يجعل حتى الوظائف التقليدية غير مستقرة.

نموذج الثمرة المريضة: تجليات الانقسام الاجتماعي

إن قوة نموذج الثمرة الدائرية تكمن في قدرته على تشخيص "صحة" المجتمع. يمكن للثمرة أن تأخذ أشكالاً تعكس أمراضاً اجتماعية مختلفة.

  • الثمرة ذات النواة المنعزلة: يمثل مجتمعاً شديد الانقسام حيث تنفصل فيه النخبة تماماً عن بقية المجتمع، وتعيش في فقاعة محمية من المخاطر. هذا الانفصال ليس مادياً فقط (مثل العيش في المجمعات السكنية المغلقة)، بل هو أيضاً انفصال اجتماعي وثقافي واقتصادي كامل، حيث تمتلك النخبة عملتها الخاصة، ومؤسساتها الخاصة، وشبكاتها الخارجية. هذا الشكل يفسر وجود "مجتمعين داخل دولة واحدة".
  • الثمرة المذوية: يمثل مجتمعاً في حالة تراجع، حيث تنكمش الموارد المتاحة للجميع. في هذا السيناريو، تظل النواة صلبة، بل قد تزيد ثروتها من خلال الاستحواذ على الأصول المنهارة، بينما تذوي الطبقات الخارجية. هذا يوضح كيف أن سياسات التقشف يمكن أن تؤدي إلى تدهور شامل للمجتمع لصالح أقلية.
  • الثمرة المجزأة: يمثل مجتمعاً تنقسم فيه الطبقات بناءً على هويات أخرى غير اقتصادية، مثل العرق، أو الإثنية، أو الدين. في هذا الشكل، لا تظهر الطبقات كدوائر متصلة، بل كفصوص أو شرائح منفصلة. هذا التصور يتناغم مع مفهوم التقاطعية (Intersectionality)، حيث تتقاطع عوامل متعددة لتحديد مدى تعرض الأفراد للمخاطر.


التطبيقات العملية والتحليل النقدي

هذا اختبار وتطبيق للنموذج على الواقع، من خلال تطوير نموذج الثمرة الدائرية يمكن تحليل أهم الجوانب والتحديات داخل المجتمع،  تطبيق على حالة مجتمع (الثمرة الدائرية ذات النواة المنفصلة).

الاقتصاد: من التسرب إلى التمركز

في الاقتصاد، يُستخدم نموذج الثمرة الدائرية لتفكيك الأيديولوجيا القائلة بأن الثروة "تتسرب" من الأغنياء إلى الفقراء. هذا النموذج يوضح أن الثروة في الواقع تتركز في النواة.

  • الرأسمالية المحسوبية: يفسر النموذج كيف أن ثروة "النواة" لا تُبنى على الابتكار أو الإنتاجية، بل على المضاربة والوساطة والاستغلال. هذا النوع من الاقتصاد يتنافر مع المعرفة المنهجية، مما يدفعه إلى تهميش الطبقة المثقفة، لأنها تمثل تهديداً لمكانته.
  • سياسات الضرائب: في نموذج "الثمرة"، يتم تصميم السياسات الضريبية بحيث تفيد النواة، مما يسمح لها بالنمو بشكل أكبر على حساب الطبقات الخارجية. في المقابل، تُفرض ضرائب غير مباشرة على الاستهلاك، مما يثقل كاهل الطبقات الدنيا.

السياسة: صراع المصالح بين النواة والجمهور

يُقدم نموذج الثمرة الدائرية رؤية ثاقبة للعملية السياسية. فهو يوضح أن السياسات العامة لا يتم تصميمها لخدمة "المصلحة العامة" بل لخدمة "مصلحة النواة" الخاصة.

  • الزبائنية والولاء: في هذا النموذج، تُمنح المناصب السياسية والإدارية لأفراد بناءً على الولاء وليس الكفاءة. هذه الزبائنية "نظام اجتماعي وسياسي قائم على المحسوبية" تضمن أن السياسات ستظل موجهة لحماية النواة، لأن أفرادها يعرفون أن مكانتهم تعتمد على طاعتهم.
  • السياسات غير المفهومة: يفسر النموذج لماذا يتم الاستثمار في مشاريع عملاقة (مثل المطارات والموانئ) التي تفيد النخبة، بينما يتم إهمال الخدمات الأساسية (مثل التعليم والصحة العامة) التي تهم الطبقات الخارجية. إنها مسألة أولويات؛ فالنواة لا تعاني من مشاكل التعليم أو الصحة، وبالتالي لا تعتبرها قضايا تستحق الاهتمام.

التسويق والتنمية: بيع الأوهام وتوزيع المخاطر

لا يقتصر تطبيق النموذج على الاقتصاد والسياسة، بل يمتد إلى مجالات أخرى مثل التسويق والتنمية.

  • التسويق: في نموذج الثمرة الدائرية، يعمل التسويق كأداة لتعزيز الهرمية. يتم استهداف النواة بمنتجات حصرية تضمن لها العزلة، بينما يتم استهداف الطبقات الخارجية بمنتجات تبيعها "وهم" الانتماء إلى الطبقة الوسطى، مما يحفزها على الاستهلاك المفرط الذي لا تستطيع تحمله.
  • التنمية: يكشف النموذج أن التنمية غالباً ما تكون عملية طبقية. إنها لا تهدف إلى رفع مستوى المجتمع ككل، بل إلى تركيز الثروة والموارد في النواة. الطبقات الخارجية هي التي تتحمل الأضرار الجانبية للمشاريع التنموية، مثل التلوث أو ارتفاع تكاليف المعيشة، بينما تذهب أرباح هذه المشاريع إلى النواة.

نموذج الثمرة الدائرية كأداة تشخيصية

إن القيمة الأهم لهذا النموذج تكمن في قدرته على أن يكون أداة تشخيصية. بدلاً من مجرد رسم تخطيطي، فإنه يوفر للباحثين والمحللين طريقة لتحديد "حالة صحة" المجتمع. فإذا كانت الطبقات متصلة بشكل عضوي، فإن المجتمع سليم. أما إذا كانت النواة منعزلة، واللب يتقلص، فإن المجتمع يعاني من مرض عميق. هذه الأداة لا تتنبأ بالمستقبل، بل تساعد على فهم الحاضر بوضوح أكبر، وتكشف عن آليات الانهيار أو الثورة قبل أن تحدث.

أصول التفاهة: صراع الثقافة والكفاءة

يرتبط نموذج الثمرة الدائرية بشكل مباشر بـ "عصر التفاهة". فكما أوضحنا، فإن النخبة التي وصلت إلى السلطة عن طريق "الانتهازية" و"السمسرة" لا تستطيع أن تتعايش مع الطبقة الوسطى المثقفة. هذا يؤدي إلى إقصاء المتعلمين والمهرة، واستبدالهم بأفراد يتمتعون بالولاء المطلق، حتى لو كانوا عديمي الكفاءة. هذا النظام يغذي التفاهة ويعززها، مما يجعلها ليست مجرد ظاهرة، بل هي آلية متعمدة للحفاظ على السيطرة.

خاتمة نموذج الثمرة الدائرية والنظام الطبقي في المجتمع الحديث

في نهاية المطاف، فإن نموذج الثمرة الدائرية يمثل قفزة نوعية في مجال التحليل الاجتماعي. إنه يتجاوز التصورات القديمة ليقدم رؤية أكثر حيوية وواقعية للمجتمعات المعاصرة. إنه لا يصف فقط الفوارق الطبقية، بل يفسر آلياتها، ويكشف عن الأسباب الجذرية للأزمات الاجتماعية والسياسية. لقد أثبت هذا النموذج قدرته على أن يكون أداة عملية ليس فقط لعلماء الاجتماع، بل أيضاً للاقتصاديين، والسياسيين، وحتى الأفراد الذين يسعون لفهم العالم من حولهم بشكل أعمق. إن تبني هذا النموذج في الأبحاث الأكاديمية والمناقشات العامة قد يكون خطوة حاسمة نحو فهم أفضل لما يواجهه مجتمعنا في القرن الحادي والعشرين.

بقلم الفنان: محمد مجدي فرحات


مواضيع مهمه
مواضيع متنوعة:

Share To:

About Me

Mohamed Magdy is a fine artist, professional in oil painting, classic furniture and decor designer, writer, and researcher in the humanities. .Follow me

Post A Comment:

backtotop

الموافقة على ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط ليقدم لك تجربة تصفح أفضل. باستخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط

قراءة المزيد