الألوان كذاكرة بديلة – الفن كتعويض عن قصور الحكاية المكتوبة

أكتشف الدور الذي تلعبه الألوان في الفن كذاكرة بديلة من دور وجودي ونفسي عميق للفرد والمجتمع. أن الإنسان لا يتذكر فقط باللغة، بل يتذكر بالقلب والعين.

هل سبق لك أن شعرت أن الكلمات خانتك؟ أنك حاولت أن تروي قصة، ولكنها فقدت شيئًا من روحها على الورق؟ أنك حاولت وصف ذكرى عزيزة، ولكنها تحولت إلى مجرد حكايات سطحية؟ هذه ليست مشكلة فردية، بل هي عجز إنساني مشترك. فذاكرتنا ليست مجرد حقائق متسلسلة، بل هي مزيج معقد من المشاعر، الروائح، والألوان. في خضم هذا القصور اللفظي، يبرز الفن كمنقذ، يمنحنا الألوان كذاكرة بديلة، أداة بصرية تعوّض عن ضعف الحكاية المكتوبة. هذا المقال يغوص في أعماق العلاقة بين الفن والذاكرة، مستكشفًا كيف يمنحنا اللون والضوء والتركيب الفني طريقة لاستعادة الذكريات، لا كما حدثت، بل كما شعرنا بها، وكيف أصبح الفن بحد ذاته أرشيفًا نفسيًا للإنسانية.


الألوان في الفن كذاكرة، الفن والذاكرة
الفن والذاكرة

الألوان كذاكرة بديلة

هل يمكن للون أن يحكي قصة صامتة؟، هل فكرت يومًا أن اللون الأحمر في لوحة ما يمكن أن يكون أكثر تعبيرًا عن الألم أو الشغف من ألف كلمة؟ هل يمكن أن تكون اللوحة الفنية، بكل ما فيها من ألوان ودرجات، هي سجلنا الأعمق للماضي، عندما تخوننا الكلمات والحكايات المكتوبة؟ في عالم يزداد فيه الاعتماد على اللغة والبيانات، يبرز الفن البصري كوسيط فريد لـ "الذاكرة البديلة". هذه العلاقة المعقدة بين الفن والذاكرة، وتحديداً استخدام الألوان كأداة نفسية لتعويض قصور السرد اللفظي، تجعل اللوحة ليست مجرد زينة، بل وثيقة حية تعيش في أعمق طبقات وعينا.

المفاهيم الأساسية – الفن بين الذاكرة الفردية والجمعية

لفهم كيف تعمل الألوان كـ "ذاكرة بديلة"، يجب أن نستوعب أولاً العلاقة بين الذاكرة والقصور اللغوي.

  • الذاكرة غير اللفظية (Non-Verbal Memory): لا تقتصر الذاكرة البشرية على الحقائق والأحداث التي يمكن وصفها بالكلمات (الذاكرة الدلالية أو العرضية). هناك جزء كبير من ذاكرتنا يعتمد على الأحاسيس، والعواطف، والصور، والتي يصعب التعبير عنها لغويًا. هذه هي الذاكرة التي يُطلق عليها أحيانًا "الذاكرة الانفعالية" (Emotional Memory).

يرى علماء النفس أن التجارب المؤلمة، خاصة الصدمات، غالبًا ما تُخزن في الذاكرة غير اللفظية، مما يجعل الألوان والأشكال هي الطريقة الوحيدة لاسترجاعها أو التعبير عنها.

  • قصور الحكاية المكتوبة (The Deficiency of Written Narrative): على الرغم من قوة اللغة، إلا أنها غالبًا ما تفشل في نقل الكثافة العاطفية للحدث. اللغة خطية ومنطقية بطبيعتها، بينما العاطفة متعددة الأبعاد وفوضوية.

هذا القصور يُلهم الفنانين للبحث عن لغة بصرية بديلة، حيث يتمكن اللون من نقل المشاعر بشكل مباشر وغير مُصفى عبر المنطق.

  • الذاكرة الجمعية (Collective Memory): يرى عالم الاجتماع موريس هالفاكس (Maurice Halbwachs) أن الذاكرة ليست فردية فحسب، بل هي اجتماعية وجمعية. في حالة الكوارث أو الأحداث التاريخية الكبرى، تصبح الألوان والرموز البصرية المشتركة هي الأطر التي يتذكر بها المجتمع الحدث.

مثال لوحات تُصور الحرب أو المآسي تصبح جزءًا من الذاكرة الجمعية، حيث يتم تذكر المشاعر المصاحبة للحدث عبر الألوان.

علم النفس اللوني والذاكرة – كيف يُثير اللون الاسترجاع؟

في البعد النفسي، يلعب اللون دورًا مباشرًا في عملية التذكر والاستجابة العاطفية.

الاقتران العاطفي (Emotional Conditioning): يربط الدماغ بين ألوان معينة وتجارب عاطفية محددة. اللون الأزرق الداكن، على سبيل المثال، يمكن أن يُقترن بشعور الحزن أو الوحدة، ليس لسبب منطقي، بل نتيجة لتراكم التجارب البصرية المرتبطة بهذا اللون، عندما يُستخدم هذا اللون في لوحة، فإنه يُطلق استجابة عاطفية فورية لدى المشاهد، مُتجاوزًا العملية اللغوية.

تشريح الذاكرة: لماذا لا تكتمل بالكلمات؟

لفهم كيف يعوّض الفن عن قصور الذاكرة اللفظية، يجب أن ندرك أولاً أن الذاكرة ليست حقيقة واحدة. يميّز علماء الأعصاب بين أنواع مختلفة من الذاكرة:

  • الذاكرة العرضية (Episodic Memory): وهي ذاكرة الأحداث الشخصية، مثل أول يوم دراسي أو رحلة مع العائلة. هذه الذاكرة غنية بالمشاعر والتفاصيل الحسية.
  • الذاكرة الدلالية (Semantic Memory): وهي ذاكرة الحقائق والمفاهيم المجردة، مثل عواصم الدول أو النظريات العلمية.

المشكلة تكمن في أن اللغة تميل إلى تبسيط الذاكرة العرضية، وتحويلها إلى مجرد حقائق جافة، مما يفقدها ثرائها العاطفي. على سبيل المثال، يمكنك أن تقول "رأيت غروب الشمس"، ولكن هذه الكلمات لا تنقل شعورك بالدفء، أو الألوان النارية التي ملأت السماء. وهنا يأتي دور الفن، ليملأ الفجوة.

اللون والضوء – مفاتيح الذاكرة العاطفية

الفنانون، عبر العصور، فهموا أن الألوان والضوء يمتلكان قوة فريدة على استحضار المشاعر والذكريات.

الرمزية اللونية: ارتبطت الألوان بمشاعر معينة في الوعي الجمعي. الأحمر يرمز للحب والغضب، والأزرق للهدوء والحزن، والأصفر للأمل والغيرة. فنانون مثل فان جوخ (Vincent van Gogh) استخدموا هذه الرمزية بعبقرية. في لوحته "مقهى الليل" (The Night Café)، الألوان الصفراء الحادة والخضراء المائلة للفسفوري تخلق جوًا من التوتر والقلق، وتجعلنا نشعر بالوحدة التي كان فان جوخ يشعر بها. إنه لا يصف لنا المشهد، بل يمنحنا إحساسًا بالذكرى.

الضوء هو راوٍ: يلعب الضوء دورًا حيويًا في الفن. فنانون مثل رامبرانت (Rembrandt) استخدموا أسلوب "الكياروسكورو" (chiaroscuro) لخلق تباين حاد بين الضوء والظل. في لوحاته، يبرز الضوء وجوه الشخصيات، ويكشف عن تفاصيل عاطفية دقيقة، بينما يحيطها الظل الغامض، مما يعطي إحساسًا بالسرية والعمق. هذا الأسلوب لا يوثق المظهر الخارجي فقط، بل يوثق الحالة النفسية، ويجعلنا نشعر أننا نرى ذكرى حميمة لا يراها أحد سوانا.

الانطباعية والسريالية لتوثيق الذاكرة في لحظات

ظهرت حركات فنية كاملة لتحدي مفهوم الذاكرة المكتوبة، وتقديم الألوان كبديل.

الانطباعية (Impressionism): تحدّت هذه الحركة فكرة أن اللوحة يجب أن تكون صورة دقيقة للواقع. فنانون مثل مونيه (Claude Monet) وبيسارو (Camille Pissarro) لم يرسموا الأشياء كما هي، بل كما تبدو في لحظة معينة، متأثرة بالضوء والجو. لوحة مونيه "انطباع، شروق الشمس" (Impression, Sunrise) لا ترسم شروق الشمس، بل ترسم إحساس اللحظة، وتجمدها في مجموعة من الألوان المتناغمة. هذه الأعمال تعوّض عن عجزنا عن تذكر اللحظات العابرة، وتمنحنا إياها كذكرى بصرية قابلة للتأمل.


كلود مونيه  Impression, Sunrise
كلود مونيه  Impression, Sunrise، الانطباع شروق الشمس

السريالية (Surrealism): ذهبت هذه الحركة أبعد من ذلك، مستكشفة ذاكرة اللاوعي. فنانون مثل سلفادور دالي (Salvador Dalí) استخدموا أشكالًا غريبة وألوانًا حالمة لتمثيل الذاكرة غير المنطقية للأحلام. لوحته "إصرار الذاكرة" (The Persistence of Memory)، التي تصور ساعات ذائبة، لا تصف الذاكرة بل تجسدها ككائن سائل وغير ثابت، وهذا يمنحنا فهمًا أعمق لطبيعة الذاكرة، التي تتلاشى وتتشوه مع مرور الوقت.

هذه الحركات الفنية قدمت تعويضًا عن قصور الذاكرة اللفظية، ومنحتنا أدوات جديدة لفهم كيف تتشكل ذكرياتنا وكيف تتغير.

الفن المعاصر – إعادة بناء الذاكرة الفردية والجمعية

في العصر الحديث، يستمر الفن في لعب دوره كذاكرة بديلة، لكن بأدوات وتقنيات جديدة.

الفن التركيبي (Installation Art): فنانون مثل كريستو وجين كلود (Christo and Jeanne-Claude) في أعمالهما الضخمة التي تغلف المباني أو الجسور، يخلقون ذكريات جماعية لا يمكن وصفها بالكلمات. هذه الأعمال ليست مجرد عرض، بل هي حدث تاريخي يشارك فيه آلاف الأشخاص، ويخلق لهم ذكرى مشتركة، وهذا يعوّض عن الشعور بفقدان الانتماء في المجتمعات الحديثة.

التصوير الفوتوغرافي والفن الرقمي: أصبحت الكاميرا أداة لتجميد اللحظات، ولكن الفن الرقمي يذهب أبعد من ذلك. فنانون مثل لورين بيري (Lauren Berry) في أعمالها التي تجمع بين الصور القديمة والرسومات الرقمية، يعيدون بناء الذكريات العائلية بطرق جديدة، مما يعوّض عن فقدان الذاكرة الفردية.


الفن والذاكرة الجمعية – إعادة كتابة التاريخ

بالإضافة إلى وظيفته الفردية، يلعب الفن دورًا حيويًا في تعويض عن قصور الذاكرة الجمعية، خاصة في المجتمعات التي عانت من الصدمات.

  • الفن العام (Public Art) كذاكرة جماعية: المتاحف والنصب التذكارية في الفضاءات العامة لا تُذكرنا بالأحداث فقط، بل تعوّض عن الفقدان الجماعي. "جدار فيتنام للمحاربين القدامى" (Vietnam Veterans Memorial) في واشنطن ليس مجرد قائمة أسماء، بل هو تجسيد بصري للحزن الجماعي. تصميمه البسيط والأسود، الذي يجعلك ترى وجهك منعكسًا في أسماء الموتى، يجعلك تشارك في تجربة الحداد، مما يعوّض عن عجز اللغة عن وصف حجم المأساة.
  • الفن كوثيقة تاريخية: في المجتمعات التي تعرضت للقمع، قد يكون الفن هو الوسيلة الوحيدة لتوثيق الأحداث. رسوم الجدران أو اللوحات التي تصور معاناة الناس، تصبح ذاكرة بديلة للتاريخ الذي تم محوه أو تشويهه. إنها تعوّض عن قصور السرد الرسمي، وتمنح صوتًا للذين لا صوت لهم.

الألوان الرمزية في العلاج النفسي

في العلاج بالفن، يُستخدم اللون كأداة أساسية لاستكشاف العواطف المكبوتة، يُشجع المرضى على استخدام ألوان معينة للتعبير عن المشاعر التي لا يستطيعون التعبير عنها كلاميًا، مما يُحوّل المشكلة اللغوية إلى حل بصري.

الألوان تصبح "كلمات" غير منطوقة في قاموس الذاكرة النفسية. تعرف أكثر على:

سيكولوجية الألوان لتحسين مزاجك وصحتك النفسية

نظرية الكفاءة البصرية (Visual Primacy): تشير الدراسات المعرفية إلى أن المعالجة البصرية للمعلومات هي أسرع وأكثر فعالية من المعالجة اللغوية. عندما نرى لونًا، يتم تنشيط مناطق الدماغ المسؤولة عن العاطفة والذاكرة بشكل فوري، مما يجعل الألوان أداة قوية للاسترجاع العاطفي الفوري.

الفن كأداة للشفاء من الصدمات والذاكرة المصورة

في مجال العلاج بالفن، يُستخدم الفن كأداة قوية لتعويض عن عجز الضحايا عن التعبير عن صدماتهم بالكلمات. فصدمات الطفولة، أو تجارب الحرب، غالبًا ما تكون مؤلمة جدًا بحيث لا يمكن وصفها لفظيًا. هنا، يصبح الفن وسيلة آمنة للتعبير.

الرسم التعبيري: يُطلب من الضحايا رسم ما يشعرون به بدلًا من محاولة وصفه. الألوان، الخطوط، والأشكال تصبح لغة بديلة. اللون الأسود قد يعبر عن اليأس، والخطوط المتشابكة عن الارتباك. هذه العملية لا تخرج المشاعر المكبوتة فقط، بل تجعلها مرئية، مما يمنح الضحية شعورًا بالسيطرة على تجربته.

النحت والتركيب: قد تُستخدم هذه الأشكال الفنية لتمثيل المشاعر المعقدة. نحت يمثل "جدارًا من الحزن" أو تركيب يمثل "منزلًا من الذكريات المفقودة". هذه الأعمال الفنية تقدم تعويضًا عن الفقدان، وتمنح الذاكرة شكلًا ملموسًا يمكن التعامل معه.

إن الفن هنا ليس مجرد توثيق، بل هو عملية علاجية نشطة، تُستخدم لتعويض عن عجز اللغة، وتمنح الضحايا الأمل في الشفاء.


المدارس الفنية كمعاجم لونية للذاكرة
قدمت المدارس الفنية المختلفة معجمًا ثريًا للألوان، حيث تحول كل اتجاه فني إلى سجل خاص لنوع معين من الذاكرة العاطفية.

التعبيرية (Expressionism): الصرخة اللونية للذاكرة الصادمة:

استخدم فنانون مثل إدفارد مونك (Edvard Munch) الألوان غير الواقعية والمشوهة للتعبير عن القلق واليأس والاغتراب.

اللون الأحمر الناري في لوحة "الصرخة" (The Scream) ليس مجرد لون للسماء، بل هو رمز بصري للرعب الداخلي الذي لا يمكن وصفه.

إنها ذاكرة الصدمة التي تُحوّل الواقع إلى كابوس لوني.

الانطباعية (Impressionism): ذاكرة اللحظة العابرة: ركزت الانطباعية على التقاط ذاكرة اللحظة العابرة وتأثير الضوء والجو، استخدم فنانون مثل كلود مونيه (Claude Monet) الألوان الزاهية والمتقطعة لتسجيل الذاكرة الحسية. الألوان في هذه اللوحات تُعوض عن قصور الكلمات في وصف الأحاسيس الدقيقة للحظة.

التجريد (Abstract Art): الذاكرة النقية للعاطفة: تجاوز التجريد فكرة تمثيل الواقع تمامًا، وركز على اللون والشكل النقي كشكل من أشكال التعبير عن الذاكرة والعاطفة. لوحات مارك روثكو (Mark Rothko)، التي تتكون من مساحات لونية كبيرة، تهدف إلى إثارة تجربة تأملية وعاطفية عميقة لدى المشاهد. اللون هنا هو الذاكرة النقية، الخالية من أي سرد أو قصة مكتوبة.


حالات دراسية في الفن: الألوان كبدائل للحكاية المكتوبة
العمل الفني وتحليل الألوان كذاكرة بديلة

Starry Night Vincent van Gogh 1889

Starry Night Vincent van Gogh

استخدام الألوان الزرقاء والصفراء الدوارة يُعبّر عن الذاكرة العميقة للاضطراب النفسي واليأس الذي لم يُكتب عنه بالكامل.

Guernica Pablo Picasso 1937

Guernica Pablo Picasso

 استخدام الأبيض والأسود والرمادي، بدلاً من الألوان الزاهية، هو ذاكرة بصرية لـ "موت اللون"، يوثق الرعب والدمار بطريقة تتجاوز الوصف الصحفي.

Blue Period Works Pablo Picasso 1901-1904

Blue Period , Pablo Picasso
Blue Period Works Pablo Picasso


 Pablo Picasso 1901-1904، Pablo Picasso 1901-02 , Femme aux Bras Croisés, Woman with Folded Arms (Madchenbildnis) oil on canvas, 81 × 58 cm

هي فترة كاملة تُستخدم فيها الألوان الزرقاء والخضراء الداكنة لتوثيق الذاكرة الشخصية للحزن والفقر والاكتئاب بعد وفاة صديقه.

Composition VII Wassily Kandinsky 1913

Composition VII Wassily Kandinsky
Composition VII Wassily Kandinsky

 ألوان متفجرة وغير مرتبطة بالواقع، تعوض عن قصور اللغة في وصف الذاكرة الروحية والتجربة الصوفية.

الفن ومتعة الذاكرة البصرية
إن الدور الذي تلعبه الألوان في الفن كذاكرة بديلة هو دور وجودي ونفسي عميق. إنها تثبت أن الإنسان لا يتذكر فقط باللغة، بل يتذكر بالقلب والعين. إن الألوان هي لغة الروح الصامتة التي تسجل التاريخ العاطفي للفرد والمجتمع، وتُقدم لنا ملاذًا من قصور الحكاية المكتوبة.

الفن والذاكرة: الألوان كذاكرة بديلة: تعويض عن قصور الحكاية المكتوبة.
الألوان كشاهد صامت: توثيق الذاكرة في وجه النسيان
في ظل قصور الحكاية المكتوبة، يتحول اللون في الفن إلى شاهد صامت يسجل الأحداث التي يعجز اللسان عن وصفها أو قد يختار التاريخ إهمالها. إن هذا التحول من السرد اللفظي إلى التوثيق البصري يمنح الألوان سلطة أكبر على الذاكرة الجمعية.


الألوان والذاكرة التاريخية غير المروية:

الأحداث الكبرى كالمجازر أو الحروب تخلق صدمة جماعية لا يمكن للغة وصفها بشكل كامل دون أن تفقد جزءًا من كثافتها العاطفية.

هنا يأتي دور اللون ليقدم دلالة فورية لتلك الصدمة. على سبيل المثال، الاستخدام المكثف للون الأحمر الداكن أو الأسود الحبري في لوحات الحرب لا يصف الدم أو الدخان فحسب، بل يثير مباشرة الذاكرة الانفعالية للمشاهد، مُتجاوزًا التفاصيل الجافة للنص التاريخي.

يصبح العمل الفني "أرشيفًا عاطفيًا" يسجل ما رفضته الذاكرة اللفظية.


الفن كجبر للذاكرة المكسورة:

في حالات اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، غالبًا ما تكون الذاكرة مجزأة وغير خطية، مما يجعل الحكي اللفظي صعبًا أو مستحيلاً.

العلاج بالفن يعتمد على هذه الخاصية، حيث يُطلب من الفرد التعبير عن ذاكرته المكسورة من خلال الألوان والأشكال.

تُستخدم الألوان الزاهية أو المتنافرة كوسيلة لـ "إعادة تجميع" الذاكرة، مما يمنح الفرد لغة بديلة للبوح بالصدمة.


التجريد والتجريد اللوني: الهروب من قيود السرد
وصلت العلاقة بين اللون والذاكرة إلى ذروتها مع صعود الفن التجريدي، حيث تم تحرير اللون من أي ارتباطات شكلية بالواقع، ليصبح وسيطًا خالصًا للذاكرة العاطفية.

لوحات مارك روثكو (Mark Rothko):

يعتمد فن روثكو بالكامل على قوة التجريد اللوني. لوحاته التي تتكون من مساحات لونية ضخمة (Color Field Painting) تهدف إلى إثارة تجربة روحية أو وجودية عميقة ومباشرة.

اللون الأزرق العميق أو الأحمر المحروق لديه ليس رمزًا لشيء مادي، بل هو "مفتاح" للذاكرة الانفعالية للمشاهد. روثكو يطلب من المشاهد أن "يدخل" اللوحة ليعيش التجربة اللونية، متجاوزًا الحاجة إلى سرد مكتوب أو عنوان وصفي.


التعبيرية التجريدية:

أعمال جاكسون بولوك (Jackson Pollock)، التي تُسمى Action Painting، تُسجل ذاكرة الفعل والحركة.

الألوان هنا هي بصمات عاطفية لـ "لحظة" الخلق. الأنماط المعقدة من الألوان المنسكبة لا تحكي قصة، بل تُسجل حالة نفسية وذاكرة لجسد الفنان وهو في أقصى حالات التعبير العاطفي.

التحدي الميتافيزيقي للون: هل الذاكرة البصرية أعمق؟
إن الدور التعويضي للون يقودنا إلى سؤال ميتافيزيقي عميق: هل الذاكرة البصرية، وخاصة الذاكرة اللونية، أعمق وأكثر أصالة من الذاكرة السردية؟

تجاوز الانحياز اللغوي (Overcoming Linguistic Bias): اللغة البشرية مُحمّلة بالانحيازات والقيود الثقافية والاجتماعية. بينما الذاكرة اللونية، رغم تأثرها بالثقافة، تظل لديها القدرة على إثارة استجابات فيسيولوجية (كزيادة ضربات القلب أو تغيير الحالة المزاجية) بشكل أكثر مباشرة.

البنية اللاخطية للذاكرة البصرية: السرد المكتوب هو دائمًا خطي وله بداية ونهاية. بينما العمل الفني، خاصة التجريدي، هو لاخطي، مما يتماشى مع الطريقة الفوضوية وغير المنظمة التي تعمل بها الذاكرة البشرية. يمنحنا اللون في اللوحة حرية استكشاف الذاكرة دون الالتزام بترتيب زمني صارم.

خاتمة: الفن كبوصلة للذاكرة

في النهاية، يظل الفن بوصلة للروح في عالمنا المزدحم. إنه لا يكتفي بإخبارنا عن هويتنا، بل يساعدنا في بنائها. الفن قدم تعويضًا عن الفراغ النفسي الذي يعيشه الكثيرون في المدن الكبرى. من خلال الفن، نستطيع أن نجد الانتماء، ليس فقط إلى مكان أو مجتمع، بل إلى تجربة إنسانية مشتركة. الفن ليس مجرد رفاهية، بل هو حاجة أساسية، وسلاحنا الأكثر فعالية ضد شبح الوحدة والاغتراب.

لمتابعة المزيد من التحليلات العميقة حول دور الفن في علاج القضايا النفسية والاجتماعية، يمكنك الاشتراك في نشرتنا الإخبارية الأسبوعية الآن.

في المرة القادمة التي تخونك فيها الكلمات، أو تشعر أن القصة المكتوبة لم تعد كافية، ابحث عن اللون. ابحث عن اللوحة التي تُشبه روحك. إنها ذاكرتك البديلة التي لن تخذلك.


المصادر:

Halbwachs, M. (1992). On Collective Memory. University of Chicago Press.
Arnheim, R. (1974). Art and Visual Perception: A Psychology of the Creative Eye. University of California Press.
Gombrich, E. H. (1960). Art and Illusion: A Study in the Psychology of Pictorial Representation. Pantheon Books.
Marks, L. U. (2000). The Skin of the Film: Intercultural Cinema, Embodiment, and the Archive. Duke University Press.
Sacks, O. (1985). The Man Who Mistook His Wife for a Hat and Other Clinical Tales. Summit Books.
Damasio, A. R. (1994). Descartes' Error: Emotion, Reason, and the Human Brain. Putnam.
Freud, S. (1913). The Interpretation of Dreams. Macmillan.
Jung, C. G. (1964). Man and His Symbols. Dell Publishing.
Barrett, L. F. (2017). How Emotions Are Made: The Secret Life of the Brain. Houghton Mifflin Harcourt.
Shiff, R. (1984). Cézanne and the End of Impressionism. The University of Chicago Press.)
Polanyi, M. (1966). The Tacit Dimension. Doubleday & Company.)
Manovich, L. (2001). The Language of New Media. The MIT Press.)
Paul, C. (2015). Digital Art (3rd ed.). Thames & Hudson.)
Malchiodi, C. A. (2012). Art Therapy and the Brain. The Guilford Press.)
Herman, J. L. (1997). Trauma and Recovery. Basic Books.
Nora, P. (1989). Between Memory and History: Les Lieux de Mémoire. Representations, 26, 7-24.
Huyssen, A. (2003). Present Pasts: Urban Palimpsests and the Politics of Memory. Stanford University Press.
Adorno, T. W. (1997). Aesthetic Theory. University of Minnesota Press.
Benjamin, W. (1968). The Work of Art in the Age of Mechanical Reproduction. Schocken Books.
Baudrillard, J. (1994). Simulacra and Simulation. University of Michigan Press.
Foucault, M. (1977). Discipline and Punish: The Birth of the Prison. Pantheon Books.
Deleuze, G., & Guattari, F. (1987). A Thousand Plateaus: Capitalism and Schizophrenia. University of Minnesota Press.
Lyotard, J. F. (1984). The Postmodern Condition: A Report on Knowledge. University of Minnesota Press.
Butler, J. (1990). Gender Trouble: Feminism and the Subversion of Identity. Routledge.
Rancière, J. (2009). Aesthetics and Its Discontents. Polity Press.
Shiner, L. (2001). The Invention of Art: A Cultural History. University of Chicago Press.
Carroll, N. (2001). Philosophy of Art: A Contemporary Introduction. Routledge.
Zeki, S. (1999). Inner Vision: An Exploration of Art and the Brain. Oxford University Press.
Kandel, E. R. (2012). The Age of Insight: The Quest to Understand the Unconscious in Art, Mind, and Brain. Random House.
Livingstone, M. (2002). Vision and Art: The Biology of Seeing. Harry N. Abrams.
Ramachandran, V. S. (1998). Phantoms in the Brain: Probing the Mysteries of the Human Mind. William Morrow.
Damasio, A. (2000). The Feeling of What Happens: Body and Emotion in the Making of Consciousness. Harcourt Brace.
LeDoux, J. (1996). The Emotional Brain: The Mysterious Underpinnings of Emotional Life. Simon & Schuster.
Neisser, U. (1981). John Dean's Memory: A Case Study. Academic Press.
Loftus, E. F. (1996). Eyewitness Testimony. Harvard University Press.
Tulving, E. (1983). Elements of Episodic Memory. Oxford University Press.
Baddeley, A. D. (1990). Human Memory: Theory and Practice. Allyn and Bacon.



مواضيع مهمه
مواضيع الفن
مواضيع متنوعة:

Share To:

About Me

Mohamed Magdy is a fine artist, professional in oil painting, classic furniture and decor designer, writer, and researcher in the humanities. .Follow me

Post A Comment:

backtotop

الموافقة على ملفات تعريف الارتباط

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط ليقدم لك تجربة تصفح أفضل. باستخدام موقعنا ، فإنك توافق على استخدام ملفات تعريف الارتباط

قراءة المزيد