التصوير الفوتوغرافي في سياق الذاكرة الممزقة هو مشروع هندسة بصرية معقدة، يعمل على بناء حقيقة بديلة مُرممة عندما يفشل الواقع في تقديم السرد المتماسك.
عندما يصبح الماضي "لغزًا ضائعًا"، في عصر الأزمات والتحولات الجذرية، من الحروب والتهجير إلى العولمة والتغير التكنولوجي السريع، يواجه الإنسان المعاصر تهديدًا وجوديًا لـ "سلامة ذاكرته". إن التجارب الصادمة لا تمحو الماضي فحسب، بل تُشوه عملية استدعائه، مما يُنشئ ما يسميه علماء النفس "الذاكرة الممزقة" (Fractured Memory) أو الذاكرة المثقوبة. هذه الذاكرة، التي تتسم بالثغرات والتشويهات والنسيان القسري أو الممنهج، تُهدد الهوية الفردية والجمعية على حد سواء. في هذه اللحظة الحرجة، حيث يفشل السرد اللغوي والوثائق الرسمية في ترميم الشروخ، يبرز التصوير الفوتوغرافي (Photography) كـ أقوى آلية تعويض بصري. إن الصور ليست مجرد تسجيل للماضي، بل هي "بُنى تعويضية" تُعاد هندستها وتداولها لملء الفجوات المعرفية، واستعادة السيطرة على السرد الشخصي، ومقاومة فعل النسيان الممنهج. نحن هنا لا نتحدث عن الصورة كـ "دليل"، بل كـ "بناء نشط" يعوّض عن ضياع السرد الكلي للحياة.
![]() |
| التصوير الفوتوغرافي والذاكرة الممزقة |
سوسيولوجيا الذاكرة الممزقة والحاجة إلى الترميم البصري
تؤكد الأبحاث في سوسيولوجيا الذاكرة أن الذاكرة الشخصية تتشابك بشكل حيوي مع الذاكرة الجمعية (Collective Memory). عندما تتعرض مجموعة بشرية (في حالة حرب أو نفي أو قمع) لصدمة، تتشقق هذه الذاكرة الجمعية، مما يترك الأفراد مع إحساس بالانفصال الهوياتي والتاريخي (Halbwachs, M., 1992).
آليات شق الذاكرة والتعويض البصري
- النسيان الممنهج (Systematic Forgetting): تسعى الأنظمة القمعية غالبًا إلى محو أو تحريف السجل التاريخي. يعوّض التصوير الفوتوغرافي عن ذلك بـ خلق "أرشيف مضاد" (Counter-Archive). الصور الشخصية واليومية المتبادلة تُصبح "مُقاومة بصرية" تُصر على وجود رواية مختلفة عن الرواية الرسمية.
- ثغرات الصدمة النفسية: غالبًا ما يتسبب الصدمة في "ثغرات نسيان" (Amnesic Gaps) في الذاكرة الشخصية (الذاكرة اللاشعورية). الصورة الفوتوغرافية، بقدرتها على تجميد اللحظة وإعادة تفعيلها، تُصبح "مُحفزًا تعويضيًا" يُساعد على استعادة هذه الأجزاء المفقودة من الذاكرة العاطفية، حتى لو كان الاستدعاء مؤلمًا (Van der Kolk, B. A., 2014).
الصورة كـ "إثبات وجود" في المنفى
في حالات الهجرة القسرية والمنفى، تُفقد المساحات المادية التي كانت تدعم الذاكرة (المنزل، الشارع، الأغراض). تعوّض الصورة عن فقدان الذاكرة المكانية (Spatial Memory). إن حمل صور العائلة أو الوطن ليس مجرد حنين، بل هو "تعويض مادي ملموس" عن فقدان الجغرافيا. الصورة تُصبح "الوطن المتنقل" الذي يحمله الفرد معه، مُعلنًا أن الذاكرة، على الأقل، لم تُنفَ بالكامل.
الصور كـ "بناء نشط": الآليات السيميائية للتعويض
يتجاوز التصوير الفوتوغرافي وظيفته التوثيقية ليتحول إلى بناء سيميائي (Semiotic Construction) للذاكرة الممزقة. وفقاً لـ رولان بارت (Roland Barthes)، فإن الصورة تُنشئ "وخزًا" (Punctum) يُحيي الذاكرة، وهو ما يُستخدم كأداة تعويضية:
1. آلية "الوخز" كتعويض عاطفي:
وخز اللحظة المفقودة: يُعوض "الوخز" الذي تُحدثه الصورة عن غياب الشعور بالاستمرارية الزمنية. في الذاكرة الممزقة، تتفكك الأحداث. لكن الصورة، بتركيزها على تفصيل صغير ومُفعّل عاطفيًا (نظرة، زاوية، ظل)، تُنشئ جسرًا عاطفيًا يُعيد ربط اللحظة المفقودة بالحاضر. هذا التعويض ليس عقليًا بقدر ما هو تعويض وجداني يُعيد إحياء الشعور بالوحدة الذاتية.
الصورة كـ "سرد مُكثف": عندما يواجه الفرد صعوبة في سرد قصته الكاملة بسبب الصدمة، تُصبح الصورة "سردًا مُكثفًا" (Condensed Narrative). الصورة الواحدة تختصر سنوات من القصة، وتُصبح نقطة انطلاق لاستعادة الرواية الكبرى، مُعوضة عن عجز اللغة في لحظات التعبير القصوى.
2. التعويض عن "الترميز الضعيف" (Weak Encoding):
عندما تكون الذاكرة ضعيفة الترميز (أي لم تُسجل جيدًا بسبب التشتت أو الصدمة)، يتدخل المصور الفوتوغرافي لـ تقوية الترميز البصري.
- الإضاءة والزاوية: يستخدم المصورون المحترفون زوايا درامية وإضاءة قوية لـ "تثبيت" الأحداث الراهنة أو الماضية بطريقة لا تنسى. هذا التدخل الفني ليس مجرد تجميل، بل هو تعويض فعال لضعف الذاكرة الطبيعية في تسجيل الأحداث المُربكة. الصورة تُصبح "ذاكرة مُحسَّنة" هندسياً.
- صورة "ما لم يُصوَّر": أهم صور التعويض هي تلك التي تُحاول تصوير "ما لم يعد موجودًا" أو "ما كان يجب تصويره ولم يحدث". فنانون يلتقطون صورًا لمواقع مهدمة، ثم يضيفون إليها تركيبات رقمية لأشخاص أو مبانٍ كانت موجودة. هذا المزيج يُعوض عن الغياب المُطلق، مُنشئًا "حقيقة بصرية بديلة" تُلبي رغبة المشاهد في استعادة الماضي.
التصوير الأرشيفي: التعويض عن "فوضى الفردانية"
في العصر الرقمي، تتسم الذاكرة الشخصية بـ "فوضى الفردانية" (Chaos of Individualism)، حيث تتراكم آلاف الصور الفردية على الهواتف دون سياق جمعي. يعوّض التصوير الأرشيفي ومشاريع الأرشيف الرقمي المشترك عن هذه الفوضى عبر تنظيم الذاكرة.
1. فن "الأرشيف المُعاد تركيبه" (Reconstructed Archive): التعويض عن تفتيت القصة: يقوم فنانون بجمع صور قديمة متفرقة من ألبومات عائلية مُختلفة (من مُهجّرين مثلاً) وإعادة ترتيبها في سرديات بصرية متماسكة. هذا التركيب الفني يُعوض عن تفتيت القصة الجمعية، ويُعلن أن هذه الأجزاء، عندما تُجمع، تُشكل "صورة متكاملة جديدة" للمجتمع المُمزق.
إنشاء "ذاكرة مستعارة": ينجح التصوير الأرشيفي في منح الأجيال الجديدة (التي لم تعش الصدمة) "ذاكرة مستعارة" (Borrowed Memory). عبر التفاعل مع الأرشيف، يصبح الماضي المُصور جزءًا من هويتهم، مما يُعوض عن انفصالهم الزمني والجغرافي عن الأحداث الأصلية.
2. التصوير كـ "مقاومة ضد السرعة": في عصر الـ "سنابشوت" (Snapshot) والتدفق السريع للصور، تُصبح الصورة الفوتوغرافية المُتعمَّدة والمُنظمة في سياق أرشيفي مقاومة ضد سرعة النسيان. التركيز على التفاصيل، وعزل الصورة عن سياقها اليومي المزدحم، يُعوض عن فقدان التركيز الذي يهدد ديمومة الذاكرة في زمن العولمة الرقمية. الصورة المُختارة بعناية هي دعوة للتأمل، وهي عكس السرعة المُتعمدة التي تؤدي إلى النسيان.
إعادة برمجة الحنين: التصوير الفوتوغرافي والرغبة في السرد المُسيطر عليه
يُعبّر التصوير الفوتوغرافي عن رغبة عميقة (Desire) لدى الفرد والمجتمع في "إعادة برمجة الحنين" (Reprogramming Nostalgia). الحنين، في سياق الذاكرة الممزقة، قد يكون مُدمرًا لأنه يُركز على الماضي المثالي المفقود. يتدخل التصوير الفوتوغرافي كآلية تعويضية تُحوّل هذا الحنين السلبي إلى "سرد مُسيطر عليه" (Controlled Narrative).
- التعويض عن فوضى الحنين: عندما تكون الذاكرة ممزقة، يهاجم الحنين الفرد كـ تيار فوضوي ومُربك. الصورة الفوتوغرافية، بفضل إطارها المحدد وثباتها، تُعطي الحنين شكلاً مُنظماً يمكن التعامل معه. هي تُحدد بدقة ما يجب تذكره في اللحظة، وتُعزل المشاعر السلبية أو الإيجابية، مما يُلبي رغبة الفرد في استعادة السيطرة على تدفق ذاكرته العاطفية.
- الرغبة في "الاستمرارية الزائفة": الذاكرة الممزقة تُنشئ شعورًا بالانقطاع الهوياتي (فقدان الصلة بين "أنا الماضي" و"أنا الحاضر"). تُنشئ سلسلة الصور الفوتوغرافية، الموضوعة بترتيب زمني أو منطقي، "استمرارية زمنية زائفة" (Pseudo-Temporal Continuity). هذا التسلسل البصري يُعوض عن غياب الشعور الطبيعي بالاستمرارية، مُلبيًا رغبة الذات في رؤية حياتها كقصة متماسكة وذات معنى، حتى لو كانت هذه القصة مُرممة بصريًا.
- تجسيد الغياب كحضور: في سياق الفقد والتهجير، تُستخدم الصور لـ تجسيد الغياب كحضور فعال. وضع صورة شخص مفقود أو مكان مُدمَّر في فضاء مرئي يومي يُعلن عن الرفض البصري للنسيان. هذه الصور تُصبح "أشباحاً بصرية" (Visual Specters) تُعوض عن الفقد المادي، وتُبقي الذاكرة حية كـ التزام أخلاقي وجمالي.
التصوير الفوتوغرافي كـ "فن التزييف المُريح": تجميل الصدمة للتعايش
في محاولة للتعويض عن قبح الصدمة وقسوة الذاكرة الممزقة، يتبنى التصوير الفوتوغرافي، بشكل واعٍ أو لا واعٍ، آليات "التزييف المريح" (Comforting Fabrication). هذا التزييف ليس كذباً، بل هو آلية بقاء سيميائية تُساعد على التعايش مع الماضي المؤلم.
1. آلية "الفلترة الجمالية" للصدمة: التعويض عن الرؤية المباشرة: إن الرؤية المباشرة للصدمة (الحرب، الموت، الدمار) قد تكون مُدمرة نفسيًا. يعوّض المصور عن ذلك عبر "الفلترة الجمالية" (Aesthetic Filtering). فنانون يستخدمون إضاءة هادئة، أو زوايا فنية، أو تأثيرات ضبابية (Blurring) عند تصوير مواقع النزاع أو الضحايا. هذا الإجراء الفني يُقدم مسافة نفسية للمُشاهد، مما يُتيح له استيعاب الصدمة بشكل تدريجي ومُسيطر عليه.
تغليف الألم بالجمال: يتم تغليف الألم بجمالية الصورة (Composition). على سبيل المثال، تصوير أنقاض الحرب ولكن بـ إضاءة غروب الشمس الدافئة. هذا التعارض الجمالي يُنشئ رسالة مزدوجة تُعوض عن القسوة المطلقة للواقع، وتُقدم بصيص أمل في استعادة الجمال حتى من بين الأنقاض. هذا يختلف عن الصحافة الواقعية، وهو تعويض فني عن الواقع المُفرط في القسوة.
2. "التحريف البصري" كعلاج: يُستخدم التحرير والتلاعب الرقمي (Digital Manipulation) لـ تحريف بعض التفاصيل في الصورة القديمة. قد يقوم الناجون من صدمة بتعديل صورة قديمة لإزالة شخص مفقود أو إضافة شخص جديد، أو حتى تعديل الألوان لتكون أكثر حيوية. هذا التحريف هو تعويض فعال عن عدم قدرة الماضي على التغيير. الصورة المُعدَّلة تُصبح "حقيقة مُفبركة علاجياً" تُلبي الحاجة النفسية لإعادة كتابة التاريخ الشخصي بطريقة قابلة للتحمل. إن شرعية هذه الصور لا تأتي من مطابقتها للواقع، بل من وظيفتها التعويضية في استقرار الذات.
صورة فوتوغرافية أيقونية كتعويض عن الذاكرة الممزقة
تم اختيار الصور التالية من أعمال مصورين تاريخيين أيقونيين، تُعبّر هذه الصور عن آليات التعويض البصري للذاكرة الممزقة سواء نتيجة الحرب، أو التغير الاجتماعي الجذري، أو محاولة إعادة بناء السرد الزمني.
(حديقة فرساي، زاوية) للمصور Eugène Atget (فرنسي)1901، التعويض عن فقدان المكان: تُظهر الصورة زاوية هادئة ومهجورة في حدائق فرساي. مثلت أعمال أتجيه "أرشيفًا مضادًا" لباريس القديمة، لتوثيق الذاكرة المعمارية والجمالية للمدينة قبل أن تمحوها الحداثة.
فن "الألبوم العائلي": التصوير كـ "مختبر" لإعادة بناء الهوية العائلية
تُعد العائلة هي أول كيان يتأثر بتشظي الذاكرة. يعوّض "الألبوم العائلي" (The Family Album)، بمفهومه المادي والرقمي، عن تفكك الروابط العائلية والاجتماعية الناتجة عن الصدمة أو الهجرة.
1. الألبوم كـ "منصة للترميم الجماعي": التعويض عن التشتت الاجتماعي: يجمع الألبوم العائلي (سواء المادي أو الأرشيف الرقمي المشترك) صورًا لأفراد مُتشتتين جغرافيًا أو نفسيًا. هذا التجميع البصري يُنشئ "منصة للترميم الجماعي"، حيث يجتمع أفراد العائلة حول هذه الصور لـ سرد القصص المشتركة وتحديد الهوية العائلية. الصورة هنا ليست الهدف، بل الأداة التي تُعزز التفاعل الاجتماعي التعويضي.
دور "الطقوس الفوتوغرافية": إن عملية عرض الصور وتداولها، خاصة في بيئات الشتات، تُصبح طقسًا اجتماعيًا (Social Ritual) يُعوض عن غياب الطقوس المادية التقليدية (كالاحتفالات السنوية في الوطن الأم). هذا الطقس التعويضي يُعزز الذاكرة العائلية الانتقالية (Transitional Family Memory) التي تُساعد الجيل الجديد على فهم جذوره.
2. الصورة كـ "مُصدِّر للأمل": لا تقتصر وظيفة الصورة العائلية على الماضي، بل تُستخدم كـ "مُصدِّر للأمل" للمستقبل. صور الاحتفالات أو الإنجازات تُعوض عن حالة اليأس أو الجمود التي قد تفرضها الذاكرة الممزقة. التصوير الفوتوغرافي يُعلن أن الحياة مستمرة وأن الأجيال القادمة يجب أن ترى نفسها كـ جزء من قصة صمود، وليس كضحايا لفشل الماضي. هذا الاستخدام التطلعي للصور هو قمة التعويض البصري.
خاتمة : التصوير كمشروع هندسة الذاكرة
إن التصوير الفوتوغرافي في سياق الذاكرة الممزقة هو مشروع هندسة بصرية معقدة، يعمل على بناء "حقيقة بديلة مُرممة" عندما يفشل الواقع في تقديم السرد المتماسك. سواء كان عبر "فلترة الصدمة"، أو "إنشاء الاستمرارية الزائفة"، أو "التحريف العلاجي"، فإن الكاميرا تُصبح أداة التعويض الأساسية التي تُنقذ الهوية من براثن النسيان والتفكك.
لتطبيق هذه المفاهيم، ابحث عن مشروع "Family Camera Network" التابع لجامعة رايرسون وكيف يجمعون الأرشيفات العائلية لتعويض الذاكرة الممزقة للمهاجرين.
كلمات البحث: التصوير الفوتوغرافي، الذاكرة الممزقة، التعويض البصري، سوسيولوجيا الذاكرة، الأرشيف الفوتوغرافي، الصدمة النفسية والتصوير، الذاكرة الجمعية، الحنين البصري، النسيان الممنهج.المراجع (References)
Van der Kolk, B. A. (2014). The Body Keeps the Score: Brain, Mind, and Body in the Healing of Trauma. Penguin Books.
Halbwachs, M. (1992). On Collective Memory. University of Chicago Press.
Sontag, S. (1977). On Photography. Farrar, Straus and Giroux.
Barthes, R. (1981). Camera Lucida: Reflections on Photography. Hill and Wang.
Sekula, A. (1984). Photography Against the Grain: Essays and Photo Works, 1973–1983. NSCAD Press.
Foucault, M. (1977). Discipline and Punish: The Birth of the Prison. Vintage.
Bazin, A. (1967). What Is Cinema? Vol. I. University of California Press.
Chalfen, R. (1991). Snapshots and Social Structure. Garland Publishing.




Post A Comment:
لا توجد تعليقات بعد، كن أول من يعلّق