أكتشف دور الفن الشعبي في مقاومة العولمة وكذاكرة لتعويض المجتمع وحماية الثقافة الشعبية، ويُخزن الذاكرة العضوية، والقيم الأخلاقية، والسرديات المنسية.
هل يمكن لقطعة من الفخار الملون أو لزخرفة مطرزة على ثوب تقليدي أن تقاوم قوة التاريخ؟ في عصر العولمة (Globalization) والرأسمالية الثقافية (Cultural Capitalism)، تتعرض الثقافات الصغيرة والمحلية لعملية محو منهجي (Systematic Erasure). هذه العملية لا تهدف فقط إلى تهميشها، بل إلى استبدالها بمنتجات ثقافية موحدة قابلة للاستهلاك على نطاق عالمي. هذا الطوفان لا يهدد التنوع فحسب، بل يثير أزمة وجودية للمجتمعات التي تُجرد من "ذاكرتها الجمعية" (Collective Memory). في مواجهة هذا التهديد، يبرز الفن الشعبي (Folk Art) – بما يشمله من حرف يدوية، وزخارف، وأزياء تقليدية، وفنون أداء محلية – كآلية تعويض ثقافي بالغة الأهمية. هذا المقال ليس احتفاءً بجماليات الماضي، بل هو تحليل سوسيولوجي وأنثروبولوجي عميق لكيفية تحول الفن الشعبي إلى "ذاكرة تعويضية" تُخزن الهوية، وتحافظ على اللغة، وتقاوم محاولات الطمس الثقافي، مُقدمًا دليلاً على أن الأصالة المحلية هي أقوى أشكال المقاومة الثقافية.
![]() |
الفن الشعبي كذاكرة تعويضية ضد محو الثقافات المحلية |
الفن الشعبي ضد صدمة الطمس الثقافي والفراغ الوجودي
عندما تُطمس ثقافة صغيرة، لا يختفي فقط تراثها المادي، بل يختفي معها المنطق المعرفي، والروابط العائلية، واللغة غير المكتوبة التي تُنظّم حياة المجتمع. هذا المحو يُحدث ما يسميه علماء الاجتماع "الفراغ الوجودي" (Existential Vacuum)، حيث يفقد الأفراد القدرة على تفسير وجودهم خارج سياق الثقافة السائدة والمهيمنة. تُعزى هذه الأزمة إلى قوة العولمة التي تسعى إلى تنميط التجارب البشرية لكي تتناسب مع سلاسل الإنتاج والاستهلاك العالمية. في هذه اللحظة الحرجة، يتدخل الفن الشعبي كـ "وعاء للذاكرة" (Memory Vessel)، حيث يُصبح النقش على الخشب، أو شكل الدمية الشعبية، أو تفاصيل اللباس التقليدي بمثابة "مفاتيح سحرية" لإعادة فتح الأرشيف الثقافي المُهدد. إن الفن الشعبي يُقدّم تعويضاً وجودياً، يمنح المجتمعات الصغيرة القدرة على إعادة سرد قصتها بلغة الألوان والأشكال التي لا تستطيع الثقافة المهيمنة محوها بسهولة.
سوسيولوجيا الذاكرة التعويضية: لماذا يفشل التاريخ المكتوب؟
يختلف الفن الشعبي كذاكرة تعويضية عن التاريخ المكتوب أو الأرشيف الرسمي، وذلك لعدة أسباب سوسيولوجية تجعله أكثر مرونة وقدرة على المقاومة:
- الذاكرة العضوية مقابل التاريخ الرسمي: التاريخ الرسمي المكتوب غالباً ما يكون "منظور المنتصر" أو "وثيقة رسمية" قابلة للتعديل والتحكم. في المقابل، يُعد الفن الشعبي "ذاكرة عضوية" (Organic Memory) متجسدة في ممارسات الحياة اليومية (الأكل، اللبس، الاحتفال)، مما يجعل محوه أصعب بكثير.
- التعويض عن فقدان اللغة: في الثقافات التي لا تعتمد على الكتابة، أو التي فقدت لغتها الأم (نتيجة سياسات الاستعمار أو الاندماج القسري)، يصبح الرمز البصري في الفن الشعبي هو الأرشيف الباقي الوحيد. فالزخرفة على السجاد، على سبيل المثال، قد تختزل قصصًا وأساطير كاملة لا يمكن نطقها الآن.
- الذاكرة الموزعة: لا ينتمي الفن الشعبي إلى مكان مركزي واحد (كمتحف أو مكتبة)، بل هو "ذاكرة موزعة" (Distributed Memory) موجودة في المنازل، والأسواق، وملابس الأفراد. هذا التوزيع يعوّض عن مخاطر تدمير الأرشيف المركزي، ويضمن بقاء جزء من الثقافة مهما كانت الظروف.
آليات الفن الشعبي في تخزين الهوية: الرمز والمادة
يعتمد الفن الشعبي في دوره التعويضي على آليتين رئيسيتين: الرمزية البصرية (Visual Symbolism) والمادية (Materiality).
يعتمد دور الفن الشعبي كذاكرة تعويضية على التمييز الدقيق بين الفنون التشكيلية والتطبيقية الشعبية والثقافة المادية الشعبية (Folk Material Culture). فبينما تندرج الفنون التشكيلية والتطبيقية الشعبية ضمن مفهوم أوسع، فإنها تمثل جوانب محددة داخل المجال المادي الأكبر. الفنون التشكيلية الشعبية (Folk Fine Arts)، مثل الرسم الجداري التقليدي، أو النحت الخشبي لغرض جمالي أو طقوسي بحت، تركز بشكل أساسي على القيمة الرمزية والجمالية، وتعمل كـ وعاء لتخزين السرديات والأساطير بشكل مباشر. في المقابل، تشتمل الفنون التطبيقية الشعبية (Folk Applied Arts)، مثل أعمال التطريز على الملابس، أو الخزف المُستخدم يوميًا، على وظيفة عملية إلى جانب وظيفتها الرمزية، حيث تُستخدم الرموز لـ تشفير المعرفة والذاكرة على أشياء ضرورية في الحياة اليومية.
أما الثقافة المادية الشعبية (Folk Material Culture)، فهي المظلة الأكبر التي تضم كلاً من الفنون التشكيلية والتطبيقية، وتمتد لتشمل كل المنتجات المادية التي يصنعها المجتمع (كالمباني التقليدية، أدوات الزراعة، الأطعمة المُحضرة بطرق خاصة)، حيث تُصبح هذه الأشياء، بما في ذلك الفنون، أرشيفًا ماديًا كاملاً يعوض عن فقدان اللغة والسجلات المكتوبة. هذا التمييز يوضح أن الفنون التشكيلية والتطبيقية هي الذاكرة الرمزية المُصممة، بينما الثقافة المادية هي الذاكرة المُنَبثقة من مجمل نمط الحياة اليومي.
1. المادة كـجذور ثقافية ثابتة في مقاومة التجريد العولمي
في عالم يتجه نحو التجريد الرقمي والمواد المصنعة، يُصبح التركيز على المادة الخام المحلية (Local Raw Material) في الفن الشعبي فعلاً تعويضياً ضد محو الثقافة:
- الخامة كذاكرة جغرافية: استخدام الطين المحلي، أو الألياف النباتية الخاصة بمنطقة معينة، أو الأصباغ المستخلصة من نباتات المنطقة، يُعوض عن فقدان الارتباط المادي بالجغرافيا. القطعة الفنية تُصبح حاملة لـ "رائحة الأرض" وذاكرتها.
- التقنية اليدوية كـ "ذاكرة جسدية": تعوّض التقنيات الحرفية اليدوية (كالنسج، والتطريز، والنحت) عن محو المهارات المحلية لصالح الإنتاج الآلي. هذه التقنيات تخزن "ذاكرة جسدية" (Embodied Memory) للآباء والأجداد، حيث ينتقل إيقاع العمل وحركاته عبر الأجيال.
المثال التطبيقي: سجاد الأمازيغ (Berber Rugs) في المغرب العربي. يتم نسج هذا السجاد باستخدام صوف محلي غير مُعالج بالكامل ومصبوغ بأصباغ طبيعية من نباتات المنطقة.
الوظيفة التعويضية: المواد الخام المحلية والتجهيز اليدوي (بنسج النساء في القرى الجبلية) تُعوض عن فقدان الارتباط المادي بالجغرافيا. كل عقدة في السجادة تخزن "ذاكرة جسدية" لمهارات الأجداد ومعرفتهم البيئية، مما يجعلها وثيقة حية للمقاومة ضد محو المهارات المحلية لصالح آلات الإنتاج العولمية.
2. الرمز كـ "كود ثقافي مُشفَّر": حفظ السرديات المعقدة
تُعد الزخرفة والرمز في الفن الشعبي بمثابة "كود ثقافي مُشفّر" (Encrypted Cultural Code) يُخزن سرديات معقدة لا يمكن التعبير عنها ببساطة في لغة الأغلبية:
- الهندسة والرياضيات المحلية: تُخزن الزخارف الهندسية المعقدة (في السجاد، أو الخزف) المعارف الرياضية والفلسفية الخاصة بالثقافة. على سبيل المثال، التناظر (Symmetry) في الزخارف الإسلامية يرمز إلى الوحدة واللانهاية، وهو مفهوم لا يمكن لـ "اللغة البسيطة" للثقافة المهيمنة التعبير عنه بنفس العمق.
- اللون كـ "قاموس عاطفي": في الفن الشعبي، لكل لون دلالة عاطفية أو اجتماعية محددة (كالأحمر للدم أو الحياة، والأزرق للحماية أو الروحانية). هذا النظام اللوني يُعوض عن تسطيح العواطف (Flattening of Affect) الذي تفرضه الثقافة الاستهلاكية العالمية.
مثال من الفنون الشعبية: نموذج "النقاط" في فن الدوت (Dot Art) لسكان أستراليا الأصليين (Aboriginal Art). يتم استخدام أنماط من النقاط المتكررة لتمثيل الخرائط الروحية، وحركة الحيوانات، ومسارات الأجداد (Dreaming Tracks).
الوظيفة التعويضية: هذه النقاط ليست مجرد زينة، بل هي كود سري غير قابل للقراءة من قبل المستعمر، يخزن معارف جغرافية وفلسفية وطقوسية كاملة. الفن يعوّض عن عدم القدرة على الكتابة بلغة تقليدية مفهومة عالميًا، مُحوّلاً اللوحة إلى أرشيف سري للثقافة المهددة.
الفن الشعبي في الشتات ومقاومة الاغتراب المزدوج
في مجتمعات الشتات (Diaspora) والأقليات، يرتفع دور الفن الشعبي ليعمل كـ آلية تعويض قصوى ضد ما يُسمى "الاغتراب المزدوج" (Double Alienation): الاغتراب عن الوطن الأم والاغتراب الجزئي عن المجتمع الجديد.
"الهوية المحمولة" (Portable Identity): تُصبح الحِرف والملابس والأغراض الشعبية بمثابة "هوية محمولة" يمكن حملها وعرضها في أي مكان في العالم. هذه المادية تُعوض عن فقدان الجذور الجغرافية واللغوية.
جسر الأجيال: في الأجيال الثانية والثالثة للمهاجرين التي قد تفقد اللغة الأم تماماً، تُصبح القطعة الفنية الشعبية هي الرابط البصري الوحيد مع ثقافة الأجداد. الطفل يتعلم عن تراثه من خلال اللون والشكل في الثوب أو اللعبة الشعبية، مُعوضاً عن فشل اللغة المنطوقة في نقل التراث.
فن الاحتفال والمأساة: رغبة الذاكرة في التجسيد الدرامي
تُعبر الثقافات الصغيرة والمُهددة بالمحو عن رغبة عميقة (Desire) في تجسيد ذاكرتها، ليس فقط كوثائق صامتة، بل كـ تجارب درامية وحسّية كاملة. يعمل الفن الشعبي، وخاصة فنون الأداء المرتبطة بالطقوس والاحتفالات (كالأزياء، والأقنعة، والدمى العملاقة)، كآلية تعويض درامية عن صمت التراث المكتوب.
- الأقنعة والأزياء كـ "تحول وجداني": تُعد الأقنعة والملابس الاحتفالية الشعبية (مثل أزياء الكرنفالات أو الرقصات الطقسية) تعويضًا بصريًا وحركيًا عن فقدان مساحات التعبير الجماعي. إنها تسمح للأفراد بـ "ارتداء الذاكرة" والانغماس في سرديات تاريخية وروحانية، مما يلغي مؤقتًا تأثير الثقافة السائدة. هذا التجسيد الدرامي يُلبي رغبة الأفراد في التعبير عن الذات الجمعية بطريقة لا تستطيع الأشكال الفنية الفردية القيام بها.
- فن الدمى كـ "حفظ ساخر للتاريخ": في كثير من الثقافات، تُستخدم الدمى الشعبية أو التماثيل الكرتونية الساخرة (Puppetry/Caricature) لتخزين سرديات المقاومة والمأساة بطريقة مرحة ومُخففة. هذا الأسلوب الفني يُعوض عن ثقل وقمع التاريخ الرسمي، ويسمح للثقافة الصغيرة بنقل تاريخها المؤلم عبر لغة الفكاهة والإشارة التي لا يمكن للسلطة محوها أو فهمها بالكامل.
المثال التطبيقي: أقنعة "الديازادا" (Diablada Masks) في منطقة الأنديز بأمريكا الجنوبية. هذه الأقنعة العملاقة والمُزينة بشكل مبالغ فيه تُستخدم في رقصات الكرنفال وتجسد صراع الخير والشر، أو قوى المستعمرين.
الوظيفة التعويضية: هذه الأقنعة تُعوض عن صمت التاريخ الرسمي الذي لم يوثق معاناة الشعوب الأصلية. ارتداء القناع يسمح للمجتمع بـ "تجسيد المأساة" بطريقة درامية مُبالغ فيها، حيث يُعبّر الرقص عن السرديات التاريخية بطريقة لا تستطيع الكلمات المكتوبة أو التاريخ المدرسي فعلها.
فن اللعب الشعبي كـ "معمل لغوي" (Linguistic Lab) تعويضي
يُعد فن الألعاب الشعبية (Folk Games) والدمى التقليدية آلية تعويض غير مباشرة تُحوّل اللعب إلى "معمل لغوي وثقافي". في الثقافات المهددة بالمحو، غالبًا ما يُفقد الجزء غير الرسمي والعاطفي من اللغة الأم أولاً، خاصة مفردات الود، والمزاح، وقصص ما قبل النوم.
الدمى كأداة لغوية: تُصبح الدمى والألعاب المصنوعة محليًا (مثل الدمى الخشبية الروسية ماتريوشكا أو عرائس المولد في مصر) بمثابة "كائنات متحدثة" داخل الأسرة. يتحدث الآباء والأجداد بلغتهم الأم أثناء اللعب مع الأطفال، مما يخلق سياقًا عاطفيًا وحسيًا يُعوض عن غياب اللغة في البيئة الرسمية (المدرسة أو العمل).
تعويض قصور التعليم اللغوي: هذا الفن يُقدّم منهجًا بديلًا لتعليم التراث. الألوان، والشكل، ووظيفة اللعبة تخزن مفاهيم ثقافية (كالترابط العائلي في حالة الماتريوشكا، أو الاحتفال الديني في حالة عرائس المولد)، مما يُعوض عن فشل الأنظمة التعليمية الرسمية في نقل هذه المفاهيم. الفن الشعبي في هذا السياق هو فعل "تربوي بصري" سري.
الإضاءة والتلوين: إعادة بناء "البيئة الحسية" المفقودة
التعويض عن محو الثقافة لا يقتصر على الرمز فحسب، بل يمتد ليشمل إعادة بناء "البيئة الحسية" (Sensory Environment) المرتبطة بالثقافة المفقودة. هذا البعد يصبح حاسمًا في مجتمعات الشتات التي تعيش في بيئات حضرية مختلفة تمامًا عن أوطانها الأصلية.
الزجاج الملون كذاكرة ضوئية: تُعد تقنيات الزجاج الملون أو الأضواء الزخرفية التقليدية (مثل الفوانيس في الثقافة الإسلامية) وسيلة لـ تنقية وتشفير الضوء داخل المنزل أو مكان العبادة. هذا الضوء المُرشّح يُعوض عن غياب الأجواء البصرية والضوئية للوطن الأصلي (كمثل ضوء الشمس المُصفى عبر الشرفات الخشبية القديمة أو النوافذ الملونة).
التعويض عن التنافر البصري: في مدن الغربة التي تعاني من التنافر البصري وتوحيد الألوان، يُصبح إدخال الألوان الشعبية الزاهية والدافئة (كالأحمر والأصفر والأزرق النيلي) عبر المفروشات والزخارف، فعلاً تعويضيًا لـ تهدئة القلق الوجداني واستحضار الإحساس بالدفء والانتماء الذي كان متأصلاً في البيئة الأصلية. الفن هنا يُنشئ "ملاذًا بصريًا حراريًا" داخل البيت.
الاستيلاء والتفكيك: دور الفن الشعبي في مواجهة التسليع
يُشكل الفن الشعبي تحديًا مستمرًا للسلطات الثقافية الغربية والعولمية التي تسعى إما لـ "متحفته" (Museumification) (تجميده كقطعة أثرية) أو "تسليعه" (Commodification) (تحويله إلى تذكار سياحي).
- مقاومة المتحفنة: عندما يتم إخراج قطعة من الفن الشعبي من سياقها الحي (البيت، السوق، الطقس) ووضعها في زجاج المتحف، فإنها تفقد جزءًا من ذاكرتها. تعمل المجتمعات الصغيرة على التعويض النشط ضد هذه المتحفنة من خلال الاستمرار في إنتاج واستخدام هذا الفن بشكل يومي، مما يُبقي الذاكرة حية ومتحركة خارج سيطرة المؤسسات الرسمية.
- فن التفكيك وإعادة الإنتاج: يستخدم الفنانون المعاصرون من الثقافات الصغيرة تقنيات تفكيكية (Deconstructive Techniques) على الرموز الشعبية (مثل إعادة رسم الأيقونات التقليدية بأسلوب هجين). هذا الفعل يُعوض عن تجمد الرمز، ويُقدمه كـ كود حي وقابل للتطور يمكنه التكيف مع الحاضر دون أن يفقد جذوره.
- التعويض عبر الإفراط (Hyper-Affirmation): في بعض الحالات، تلجأ الثقافات الصغيرة إلى الإفراط في تأكيد هويتها عبر الاستخدام المُتعمد والمكثف للألوان الصارخة والزخارف التقليدية في الفن العام. هذا الإفراط البصري يُعوض عن الإهمال والإخفاء الذي عانت منه الثقافة، ويجبر الثقافة المهيمنة على الاعتراف بوجودها.
الاقتصاد الأخلاقي: رغبة الفن الشعبي في مقاومة الرأسمالية الثقافية
تقف عملية إنتاج الفن الشعبي ومكانته في المجتمع في تعارض مباشر مع المنطق الرأسمالي (Capitalist Logic) الذي تحمله العولمة، مما يجعله آلية تعويض قوية ضد محو الثقافة لأسباب اقتصادية.
قيمة الاستخدام مقابل قيمة التبادل: يتميز الفن الشعبي بـ قيمة استخدام (Use Value) عالية (أي فائدته للمجتمع)، وقيمة تبادل (Exchange Value) منخفضة نسبيًا (أي سعره في السوق العالمية). هذا التركيز على القيمة الداخلية يعوّض عن هوس العولمة بقيمة التبادل، مما يحمي الفن الشعبي من أن يصبح مجرد سلعة أخرى قابلة للتنميط والإنتاج الكمي.
الفن كـ "رأسمال اجتماعي": في المجتمعات الصغيرة، لا يُقاس الفن الشعبي بالمال، بل بـ المهارة والوقت الذي يستغرقه صنعه وبـ التقدير الاجتماعي الذي يجلبه للحرفي. هذا يُنشئ رأس مال اجتماعي (Social Capital) يعوّض عن الضعف الاقتصادي والسياسي للثقافة الصغيرة، ويضمن استمرارية الحرفة.
التعويض عن تشتت الذاكرة: فنون الحرف اليدوية تُجبر الممارسين على العمل ببطء وتركيز، في بيئة جماعية في كثير من الأحيان. هذا الإيقاع البطيء والمُتأني يعوّض عن سرعة وتشتت الإنتاج العولمي، ويُعيد إحياء مساحات للتأمل والذاكرة الجماعية.
فنون الجسد والمائدة كـ "فعل طقوسي" للمقاومة
الفن الشعبي المتجسد في تزيين الجسد وتنسيق المائدة والطعام (Body and Table Art) هو من أكثر أشكال الذاكرة التعويضية التي تقاوم المحو؛ لأنه يربط الذاكرة بالوظائف البيولوجية الأساسية (الأكل والوجود).
الحناء والوشم كـ "سرديات مُنقوشة": رسومات الحناء (Henna) أو الوشم التقليدي ليست زينة، بل هي سرديات مُنقوشة على الجسد تُسجل الأحداث، والحالة الاجتماعية، والرموز الحامية. هذا الفن يُعوض عن فقدان القدرة على كتابة التاريخ بشكل رسمي، مُحوّلاً الجسد نفسه إلى "مخطوطة حية" تنقل التراث عبر الأجيال.
تنسيق المائدة كطقس هوية: يُصبح ترتيب الطعام الشعبي وتقديم الأطباق التقليدية في أوانٍ مزخرفة (كأطباق الخزف الملونة) "فعلًا طقوسيًا" يُعيد تأسيس الهوية. تناول الطعام في هذه البيئة الفنية يُعوض عن التنميط الغذائي العالمي (Global Food Standardization)، ويُعيد إحياء اللغة والقيم المرتبطة بطقوس العائلة والمائدة. الفن هنا يُقاوم المحو من خلال "المشاركة الحية" في الذاكرة.
التشويش الساخر (Sarcastic Noise) في فنون الحكمة الشعبية
في مواجهة القوة المهيمنة التي تسعى لتبسيط الثقافة أو محوها، تستخدم الثقافات الصغيرة الفن الشعبي لخلق "تشويش ساخر" (Sarcastic Noise) يقلل من شأن هذه القوة ويعزز التماسك الداخلي.
التمائم الساخرة: بعض التمائم (Talismans) والتعويذات الشعبية لا تهدف فقط للحماية، بل لـ "قلب الأوضاع" أو السخرية من الأعداء أو السلطة. هذه الفنون تعوّض عن العجز السياسي في مقاومة المحو بطريقة مباشرة، مُستخدمةً رمزية النكتة والتهكم كـ "سلاح ضعفاء".
الفن كـ "تعبير عن التناقض": الفن الشعبي يعرض غالبًا التناقضات (Contradictions) الكامنة في المجتمع (كالفقر بجوار الثروة، أو الأمل بجوار اليأس) بطريقة فطرية ومباشرة. هذا التعبير الفني الصادق يُعوض عن الخطاب الرسمي المُنقح والمُبسط الذي تروجه الثقافة المهيمنة، ويؤكد على الأصالة والتعقيد الوجودي للثقافة المهددة.
فن الأبجدية المنسية: الترميز في نسيج الكتابة
في المجتمعات التي فقدت أنظمة الكتابة القديمة أو الأبجدية الخاصة بها، يصبح الفن الشعبي أداة لـ إعادة ترميز (Recoding) هذه الأبجدية المنسية ضمن نسيج الفن.
الأبجدية كنمط زخرفي: تستخدم بعض الثقافات بقايا حروفها المنسية أو علاماتها القديمة وتدمجها في الأنماط الهندسية أو الزخارف المطبوعة على الأقمشة أو المنحوتة على الخشب. هذه الحروف لا تُستخدم للقراءة، بل كـ "نمط بصري" (Visual Pattern). هذا الفعل يُعوض عن الفشل في نقل اللغة المكتوبة، مُحوّلاً الرمز اللغوي إلى رمز بصري خالد.
التعويض عن التاريخ المفقود: كل "حرف" أو "علامة" ضمن هذا النمط يعوّض عن جزء من التاريخ المعرفي المفقود. الفنان هنا يُصبح "أمين مكتبة بصرية" يحفظ المفتاح الرمزي للغة الأم الميتة، مُقدمًا دليلاً على وجود ذاكرة تاريخية وكتابية لم تتمكن الثقافة الغالبة من محوها بالكامل.
خاتمة: الفن الشعبي كـ "حارس أمين" للتنوع
في الختام، يُثبت الفن الشعبي أنه آلية ذاكرة تعويضية لا غنى عنها في معركة الثقافات الصغيرة ضد المحو. إنه يُحوّل الرمز والمادة إلى حصن منيع ضد التنميط العولمي، ويُخزن الذاكرة العضوية، والقيم الأخلاقية، والسرديات المنسية. إن الفن الشعبي ليس مجرد تذكار من الماضي، بل هو وثيقة حية وقابلة للتطور تؤكد أن التنوع الثقافي لا يمكن محوه طالما ظل هناك شخص واحد مستعد لحياكة قطعة قماش، أو نحت قطعة خشب، أو نقل قصة عبر إيقاع تقليدي.
لمزيد من الفهم، ابحث عن دور "المنسوجات اليدوية" (Handwoven Textiles) في ثقافات أمريكا اللاتينية وكيف تم استخدام أنماطها لمقاومة الاستعمار.
المصادر والمراجع:
Hall, S. (1997). Representation: Cultural Representations and Signifying Practices. Sage Publications.
Sennett, R. (2008). The Craftsman. Yale University Press.
Bhabha, H. K. (1994). The Location of Culture. Routledge.
Schechner, R. (2002). Performance Studies: An Introduction. Routledge.
Bourdieu, P. (1984). Distinction: A Social Critique of the Judgement of Taste. Harvard University Press.
Clifford, J. (1988). The Predicament of Culture: Twentieth-Century Ethnography, Literature, and Art. Harvard University Press.
Gombrich, E. H. (1984). The Sense of Order: A Study in the Psychology of Decorative Art. Cornell University Press.
Lowenthal, D. (1985). The Past Is a Foreign Country. Cambridge University Press.
Derrida, J. (1976). Of Grammatology. Johns Hopkins University Press.
Scott, J. C. (1990). Domination and the Arts of Resistance: Hidden Transcripts. Yale University Press.
Douglas, M. (1975). Implicit Meanings: Essays in Anthropology. Routledge.
Huizinga, J. (1955). Homo Ludens: A Study of the Play-Element in Culture. Beacon Press.
Low, S. M. (2000). On the Plaza: The Politics of Public Space and Culture. University of Texas Press.
Post A Comment:
لا توجد تعليقات بعد، كن أول من يعلّق