أكتشف ألوان الفنون الهجينة والآلية التعويضية الأكثر فعالية في وجه صراع الثقافات، لأنها تُحوّل التناقض إلى منطق جمالي مُتكامل، وهندسة بصرية للتعايش.
عندما تُصبح الثقافة "ساحة معركة"، في المشهد العالمي المُعاصر، لم تعد الحدود الجغرافية هي وحدها القابلة للكسر، بل إن الحدود الثقافية (Cultural Boundaries) تتعرض لتآكل غير مسبوق. إن حركة الهجرة الجماعية، والتدفق الإعلامي العابر للقارات، وعولمة الاقتصاد، قد دفعت الثقافات المختلفة إلى تصادم عنيف داخل فضاءات اجتماعية وسياسية محدودة. هذا التصادم لا ينتج مجرد اختلاف في الرأي، بل يؤدي إلى ما يسميه علماء النفس الاجتماعي "الصدمة الثقافية المزدوجة" (Dual Cultural Trauma): صدمة التهميش التي تعيشها الأقليات، وصدمة القلق التي تعيشها الأغلبية إزاء فقدان "النقاء" الهوياتي. في هذه اللحظة الحرجة من صراع الهيمنة والتمثيل، حيث تتصارع الأنماط الجمالية والرمزية في الأسواق والمتاحف، تبرز الفنون الهجينة (Hybrid Arts) كـ آلية تعويض سوسيولوجي بالغة التعقيد. إن هذا الفن، الذي يجمع بين تقنيات ومفاهيم وأساليب من ثقافات متباينة، ليس مجرد موضة جمالية، بل هو سجل بصري للنضال من أجل التكامل (Integration)، وخط دفاع رمزي ضد التفكك الاجتماعي (Social Disintegration). نحن هنا لا نتحدث عن دمج بسيط للألوان، بل عن هندسة بصرية للتعايش تُحاول ترميم الشروخ الوجودية التي خلفها صراع الثقافات.
![]()  | 
| صورة توضح التعددية الثقافية في فن الأرت نوفو | 
المثاقفة وسوسيولوجيا الفنون الهجينة: ألوان التعويض في مواجهة صراع الثقافات
الإطار النظري للمثاقفة (Acculturation): بين التهميش والاندماج
لفهم الدور التعويضي للفنون الهجينة، يجب أولاً تحديد سياق المثاقفة. المثاقفة، وفقاً لتعريف جون دبليو بيري (John W. Berry)، هي عملية التغيير الثقافي والنفسي التي تحدث نتيجة الاتصال المستمر والمباشر بين مجموعتين ثقافيتين مختلفتين. في هذا الإطار، يحدد بيري أربع استراتيجيات رئيسية للتكيف:
- الاندماج (Assimilation): التخلي عن الثقافة الأصلية وتبني ثقافة المجتمع المضيف بالكامل، مما يخلق "فراغًا هوياتيًا" يُعوض عبر التقليد.
 
- التهميش (Marginalization): رفض الثقافتين (الأصلية والمضيفة)، مما يؤدي إلى العزلة والانفصال الاجتماعي.
 
- الفصل (Separation): الحفاظ على الثقافة الأصلية ورفض الثقافة المضيفة، مما يؤدي إلى القطيعة الاجتماعية.
 
- التكامل (Integration): الحفاظ على الثقافة الأصلية وتبني عناصر من الثقافة المضيفة، وهي الحالة التي تُنتج الفن الهجين.
 
يُعد الفن الهجين هو التجسيد المرئي لـ استراتيجية التكامل، حيث يعمل كـ "تعويض بصري" ضد السيناريوهات الثلاثة الأخرى. إنه يرفض التهميش عبر الإصرار على تمثيل الذات، ويرفض الفصل عبر مد جسور التواصل مع الآخر، ويرفض الاندماج القسري عبر الحفاظ على الرموز الأساسية. في اللحظة التي يفشل فيها الحوار السياسي واللغوي في تحقيق التكامل، يتدخل الفنان ليستخدم اللون والكتلة كـ لغة ثالثة (Tertiary Language) لتجسيد هذا التوازن المعقد، مُقدمًا دليلاً ماديًا على أن التعايش الثقافي ليس مجرد احتمال، بل هو واقع بصري ممكن التحقق. هذا الفعل الفني يُخفف من العبء المعرفي الناتج عن محاولة التوفيق بين نظامين ثقافيين متناقضين.
سوسيولوجيا النزاع التعويضي: الفن كـ "مُخفف للاضطراب المعرفي"
إن الحاجة إلى الفن الهجين كتعويض تنبع من عمق الاضطراب المعرفي (Cognitive Dissonance) الذي يعيشه الأفراد المتأثرون بالمثاقفة. عندما تتلقى الذات رسالتين ثقافيتين متناقضتين في نفس الوقت (مثلاً: "هويتك الأصلية غير مرحب بها" و "عليك أن تصبح مثلنا")، يحدث توتر نفسي عميق.
الفن كـ "إعادة تأطير": الفن الهجين يعوّض عن هذا الاضطراب عبر "إعادة تأطير" (Reframing) التناقض. فبدلاً من أن يرى الفرد دمج الثقافات كضعف أو تناقض، يراه كـ قوة وتركيب جمالي. عندما يستخدم فنان أفريقي الرموز القبلية بتقنيات التعبيرية التجريدية الأوروبية (Abstract Expressionism)، فإنه لا يقلد الغرب، بل يُعلن أن رمزه الأصلي قادر على الوجود والتأثير ضمن أي لغة فنية عالمية.
التعويض عن "الفشل التمثيلي": تعاني الأقليات من "الفشل التمثيلي" (Representational Failure)، أي أن ثقافتها لا تُمثَّل بشكل عادل في وسائل الإعلام والمؤسسات الغالبة. يُصبح العمل الفني الهجين بمثابة "فضاء مرآة" (Mirror Space) يعوّض عن هذا الفشل، حيث يمكن لأفراد المجتمع رؤية رموزهم الثقافية مُعلنة بصريًا وبقوة، مما يُعزز الاحترام الذاتي الجمعي (Collective Self-Esteem).
الفن كمقاومة للتنميط: الثقافة السائدة غالبًا ما تسعى إلى تنميط الثقافات الأخرى (Stereotyping). يقاوم الفن الهجين هذا التنميط عبر تعقيد الصورة. عندما يُدمج الفنان أنواعاً متعددة من الخطوط والزخارف غير المألوفة في عمل واحد، فإنه يُجبر المُشاهد على التخلي عن التفسير البسيط والسطحي، والبحث عن معنى أعمق.
آليات التعددية الفنية: الترجمة والتحويل البصري
تعتمد الفنون الهجينة في دورها التعويضي على آليات فنية محددة تُحول التوتر الثقافي إلى حوار بصري مُنظّم:
1. الاندماج الخطي والمفاهيمي (Linear and Conceptual Integration)
يُعد الخط والرمز البنية الأساسية للذاكرة الثقافية. يعوّض الفن الهجين عن صراع الثقافات عبر دمج هذه العناصر بطريقة تُصعب فصلها عن بعضها البعض:
- التعويض اللغوي عبر الخط: في فنون الشتات العربي، مثلاً، يُستخدم الخط العربي (Calligraphy) ليس ككتابة، بل كـ شكل تجريدي وتركيب خطي يُدمج في لوحة تستخدم تقنيات غربية حديثة. هذا الاندماج يعوّض عن عجز اللغة الأم عن التعبير في سياق الغربة، مُحوّلاً الخط إلى "شكل بصري نقي" يمكن للجمهور العالمي فهم قوته الجمالية دون الحاجة إلى فهم لغوي.
 
- تهجين المواد الخام: دمج المواد التقليدية (كـ الصوف المحلي، أو الخزف اليدوي) مع مواد فنية صناعية حديثة (كـ الراتنج، أو ألياف الكربون) يخلق تعويضًا عن صراع الأصالة والمعاصرة. القطعة الناتجة تُعلن أن الأصالة ليست شيئًا مُجمدًا في الماضي، بل هي مادة حية وقابلة للتطور.
 
2. "المُزج السيميائي" (Semiotic Blending) في الرمزية
يُستخدم المُزج السيميائي لتعويض صراع المعاني (Conflict of Meanings). عندما يحمل رمز معين معنى إيجابيًا في ثقافة وسلبيًا في أخرى، يعمل الفنان على مُعالجته.
التعويض عن سوء الفهم الثقافي: قد يُستخدم رمز تقليدي (كالحجاب، أو القناع الطقسي) في الفن الهجين، ولكن يتم دمجه بأسلوب أو شكل يكسر التنميط. فنانة قد ترسم نساء بالحجاب ولكن بألوان نيود ساطعة وتقنيات بوب آرت أمريكية. هذا المزج يعوّض عن التفسير الأحادي (Monolithic Interpretation)، ويُجبر المُشاهد على رؤية الرمز في سياق مزدوج ومُعقد.
خلق "رمزية التوافق": الهدف هنا هو خلق "رمزية توافق" جديدة. الفنان لا يهدف إلى إيجاد قاسم مشترك، بل إلى خلق معنى جديد يُولد فقط من خلال دمج الأضداد. هذا ال معنى الجديد هو التعويض الرمزي للهوية المتكاملة.
3. التباين اللوني كـ "منطقة محايدة" (Chromatic Neutral Zone)
في الفن الهجين، لا يتم دمج الألوان عشوائيًا، بل يتم استخدامها استراتيجيًا لتمثيل حالة المثاقفة المُعقدة:
اللون كـ "وسيط عاطفي": يُمكن لفنان أن يستخدم لوحة ألوان حارة (Warm Palette) مرتبطة بوطنه الأصلي، ويُدخل عليها لمسات باردة (Cool Tones) مرتبطة بالبيئة الجديدة. هذا التباين اللوني يعوّض عن التنافر العاطفي الناتج عن صراع الانتماء. اللوحة تصبح "منطقة محايدة" حيث تتفاوض المشاعر وتتعايش.
تكسير الهيمنة اللونية: غالبًا ما ترتبط الثقافة المهيمنة بألوان محددة في الفن. يعوّض الفن الهجين عن ذلك بـ تكسير الهيمنة اللونية، عبر إدخال الألوان التقليدية والزاهية (كالألوان الأفريقية أو الآسيوية التقليدية) في سياق فني عالمي، مما يرفع من قيمتها الجمالية ويدعم شرعية اللون كرمز ثقافي قوي.
الفن كـ "رغبة في التفاوض": تجاوز النقاء الثقافي المزعوم
تُعبّر الفنون الهجينة عن رغبة عميقة (Desire) في تجاوز مفهوم "النقاء الثقافي" (Cultural Purity)، وهو المفهوم الذي تستخدمه الجماعات المهيمنة أو المتطرفة لرفض الاختلاط الثقافي وتكريس الصراع. يُحوّل الفن الهجين هذه الرغبة إلى فعل تفاوضي بصري يُعلن أن الهجانة هي القوة، وليست الضعف.
رفض "الأصولية الجمالية": غالبًا ما يُطالب فنان الشتات أو الأقليات بأن يكون فنه "أصيلاً" و"نقيًا" ليمثل تراثه. تعوّض الفنون الهجينة عن هذا القيد عبر دمج الأساليب الزمنية والجغرافية (كدمج الأيقونات القديمة مع فن الجرافيتي الحديث). هذا الدمج يُعلن أن الأصالة هي القدرة على التطور والتفاوض، وليست الجمود في الماضي.
الفن وإعادة التأصيل: يُلبي الفن الهجين رغبة الأفراد في "إعادة تأصيل" (Re-rooting) أنفسهم في بيئة جديدة دون نسيان الجذور. العمل الفني، بتركيبته المعقدة، يصبح مُرشدًا بصريًا يُساعد المشاهد على رؤية كيف يمكن للأصل (الرمز التقليدي) أن يتأقلم ويستمر في سياق غريب (التقنية الحديثة). هذه الآلية تُعزز الشعور بالاستقرار الهوياتي.
إثارة التعاطف المعرفي: يُجبر تعقيد الفن الهجين المُشاهد على بذل جهد معرفي لفهم العمل. هذا الجهد يُلبي رغبة الفنان في إثارة "التعاطف المعرفي" (Cognitive Empathy) لدى جمهور الثقافة المضيفة؛ فبدلاً من رؤية "الآخر" كشيء غريب، يُدرك المُشاهد تعقيد وثراء هذا المزج، مما يُعوض عن التفسيرات السطحية التي تُغذي الصراع.
اقتصاد الفن المتعدد: تحويل التهميش إلى "رأسمال ثقافي"
لا يقتصر دور الفنون الهجينة على الجانب الرمزي، بل يمتد إلى اقتصاد الفن (Art Economy)، حيث تُصبح آلية تعويضية ضد التهميش الاقتصادي والمهني الذي قد تواجهه الأقليات في المجال الفني.
- التعويض عن الاحتكار الجمالي: غالبًا ما تحتكر المدارس الفنية الغربية القيمة الجمالية العالمية. الفن الهجين يكسر هذا الاحتكار عبر تقديم "منتج ثقافي" فريد لا يمكن تصنيفه بسهولة ضمن القوالب الغربية المعتادة. هذا التحدي يُحوّل التهميش الأولي إلى "نقطة جذب" في السوق، مما يرفع من القيمة المادية والمعنوية للفنان.
 
- خلق "رأسمال هجين": ينجح الفنان في تحويل خبرته المزدوجة (الثقافة الأصلية + الثقافة المضيفة) إلى "رأسمال ثقافي هجين" (Hybrid Cultural Capital). هذا الرأسمال يُمكن استثماره في مساحات دولية، مما يعوّض عن ضعف الرأسمال الاجتماعي والسياسي للمجتمع المنفي. الفنان هنا يستخدم رموزه كـ "عملة فنية صعبة" للنجاح في الساحة العالمية.
 
- فن الإعادة الرمزية للعمل: يُعوض الفن الهجين عن الاغتراب المهني. الفنان الذي قد لا يجد وظيفته الأصلية في بلد جديد، يجد في إنتاج الفن الهجين مهنة ذات معنى تُعيد ربطه بمهاراته وذاكرته، وتُقدم له تعويضًا وجوديًا وماليًا.
 
فن "الاحتجاج الهادئ": التعويض عن عجز الخطاب المباشر
في سياق صراع الثقافات، غالبًا ما يُقابل الخطاب الاحتجاجي المباشر بالرفض أو التجاهل. لذا، يُصبح الفن الهجين أداة لـ "الاحتجاج الهادئ" (Quiet Protest) أو المقاومة الناعمة، كآلية تعويض عن عجز الخطاب المباشر.
الرمزية الساخرة والمفارقة: يستخدم فنانون المفارقة (Irony) والكوميديا السوداء في أعمالهم الهجينة لتسليط الضوء على التناقضات الثقافية والسياسية دون الوقوع في فخ المباشرة. هذه السخرية البصرية تُعوض عن غياب "المنبر السياسي"، وتسمح للفنان بنقد الثقافة المضيفة أو الأصلية بطريقة فنية ذكية ومُشفرة.
التعويض عبر "التخريب الفني": قد يقوم فنان بـ "تخريب" صور أو شعارات تنتمي للثقافة المهيمنة عبر إدخال عناصر غريبة عليها (كدمج رموز شعبية على شعارات الشركات العالمية). هذا التخريب الفني يُعوض عن عجز الأفراد عن التغيير السياسي المباشر، ويُقدم لهم طريقة رمزية لـ التعبير عن الاستياء وإعادة تعريف السلطة البصرية.
فن "المناطق الرمادية": يُركز الفن الهجين على المناطق الرمادية (Gray Zones)، وهي مساحات الالتباس والشك بين الثقافتين. هذا التركيز يُعوض عن ثنائية "نحن/هم" الحادة التي تُغذي الصراع، ويُعلن أن الحقيقة أكثر تعقيدًا وتداخلاً، مما يُشجع على القبول بالغموض الهوياتي.
التجسيد الكريه للذاكرة: لماذا يجب على الفن الهجين أن يكون "مقززًا" لينجح؟
إن إحدى أقوى آليات التعويض في الفن الهجين هي تجسيده لـ "الجمالية الكريهة" (Aesthetics of Disgust)، وهي استراتيجية تعوّض عن الصورة المثالية والمُنمَّطة التي تُقدمها الثقافة المهيمنة عن الثقافة الأخرى. وفقًا لـ جوليا كريستيفا (Julia Kristeva) ونظرية "الـ Abject" (المُهمل/المُقزز)، فإن ما يُقززنا هو ما يهدد حدود هويتنا ونقائها. يستخدم الفنان الهجين هذا المفهوم عن عمد لـ تشويه وتشويه الرموز المألوفة (كدمج الشعر البشري، أو النفايات، أو المواد العضوية المتحللة مع الأيقونات الثقافية) لخلق عمل فني يتطلب من المُشاهد التعامل مع "الشوائب" و"القذارة" في عملية المثاقفة. هذا الفعل الفني هو تعويض صارم عن فكرة "النقاء الثقافي" المُتعالية؛ فالعمل المقزز يُعلن أن الهوية الهجينة وُلدت من صراع وفوضى، وليست من انسجام مُزيف. عبر إجبار الجمهور على مواجهة هذه الجمالية غير المريحة، ينجح الفن في تفكيك التوقعات المُريحة ويُؤكد أن التعايش الثقافي ليس دائمًا جميلاً، بل غالبًا ما يكون مُربكًا ومهدّدًا للذات الموحدة، وهذه هي وظيفته التعويضية الحقيقية.
فن "العمالة المزدوجة": تحويل الفنان الهجين إلى "جاسوس ثقافي" إيجابي
يُطلق النقاد على الفنان الهجين أحيانًا وصف "الخائن" أو "العميل المزدوج" (Double Agent) لأنه يستخدم رموز ثقافته الأصلية في سياق غربي، أو العكس، مما يثير الشكوك حول ولائه. يعوّض الفنان عن هذا الاتهام بتحويل "العمالة المزدوجة" إلى "استراتيجية تمكين" (Empowerment Strategy). فالفنان يُصبح بالفعل "جاسوسًا ثقافيًا" إيجابيًا يعمل على جلب المعرفة والتقنيات من الثقافة الغالبة (كالتقنيات الرقمية المتقدمة أو الأساليب المفاهيمية) ويُخضعها لخدمة الرموز والقصص المُنكرة في ثقافته الأصلية.
هذه العملية هي تعويض إستراتيجي عن ضعف القوة الناعمة للثقافة المنفية، حيث يتم استخدام أدوات العدو (التقنية الغربية) لخدمة قضايا الذاكرة (الرمز الشرقي). الفنان هنا لا يندمج، بل يستولي (Appropriates) على اللغة الفنية الغالبة ويُلوّنها بهويته، مُعلنًا أن الاندماج الحقيقي يمر عبر الاستيلاء النقدي الواعي. هذا الدور المُزدوج يُعزز مكانة الفنان كـ مُترجم فوري وناقد بصري للعملية الثقافية المُعقدة.
أصالة التزوير: كيف يُثبت الفن الهجين شرعيته عبر النسخ المُتعمَّد؟
يُشكّل مفهوم الأصالة (Authenticity) حجر الزاوية في صراع الثقافات، حيث تُتهم الثقافة الهجينة دائمًا بالافتقار إلى "الأصل النقي". يعوّض الفن الهجين عن هذا النقص المزعوم عبر استخدام "أصالة التزوير" (Authenticity of Forgery). فنانون هجناء يقومون بـ نسخ أعمال فنية أيقونية من الثقافة المضيفة (لوحات عصر النهضة، أو أيقونات البوب آرت)، ولكنهم يُعيدون إنتاجها باستخدام تقنيات أو أنماط أو مواد تنتمي لثقافتهم الأصلية بشكل واضح. هذا التزوير المُتعمَّد ليس محاولة للغش، بل هو فعل تعويضي رمزي يهدف إلى:
- نزع هالة القداسة: يفكك هذا النسخ هالة القداسة (Aura) عن العمل الفني الغربي، ويُعلن أن الفن ملك للإنسانية وليس حكرًا على ثقافة واحدة.
 - إعادة التعريف الجمالي: يُثبت العمل المُقلَّد والمُزوَّر أنه يمكن للتقنية الهجينة أن تُنشئ قيمة جمالية جديدة، مما يُعوض عن فكرة أن الابتكار يأتي فقط من مصدر واحد. الفنان هنا يُعلن: "تراثكم هو أرضنا للإبداع الآن". هذا التأكيد على التلاعب والتعديل هو جوهر الأصالة في زمن المثاقفة.
 
هستيريا الزخرفة: الفن الهجين كـ "مرض بصري" يُفجر القمع الاستعماري
في كثير من الثقافات (خاصة الآسيوية والإفريقية)، ارتبطت الزخرفة (Ornamentation) والتفاصيل الغنية بالهوية القبلية أو التقليدية. عندما تواجه هذه الثقافات الفن الغربي المائل للبساطة والنزعة التقليلية، تُصبح الزخرفة مُهددة بالتهميش. يعوّض الفن الهجين عن هذا التهميش عبر استخدام "هستيريا الزخرفة" (Hysteria of Ornamentation). يُغرق الفنان الهجين لوحاته ومنشآته بتفاصيل زخرفية مُفرطة، وألوان مُتداخلة، وأنماط مُتكررة بشكل قد يصل إلى حد التخمة البصرية. هذا الإفراط ليس نقصًا في الذوق، بل هو:
- رد فعل تعويضي ضد القمع: يُمثل هذا الإفراط البصري رد فعل عنيفًا ضد النزعة الاستعمارية التي سعت لـ تبسيط وإفقار الثقافة الأخرى. الزخرفة المُفرطة تُعلن عن الثراء المخفي والذاكرة الكامنة للثقافة.
 
- فن "الرفض الصامت": هذا التعبير المُفرط عن الذات، يُعوض عن غياب القدرة على التعبير اللفظي أو السياسي الواضح. إن التعبير الزخرفي المُجنون يُصبح "صوتًا صامتًا" يُفجّر القمع ويُصر على الوجود الرمزي للثقافة المتهمة بالبدائية. الفن هنا يُعلن: "نحن نرفض أن نكون بسيطين".
 
فن الخسارة المُحتفَل بها: متعة دمج الجرح في جسد اللوحة
إن التجربة الأساسية في صراع الثقافات والمثاقفة هي الخسارة (Loss): خسارة الوطن، اللغة، والذاكرة النقية. لكن الفن الهجين يرفض أن يُعامل الخسارة كـ نهاية مأساوية، بل يحوّلها إلى "خسارة مُحتفَل بها" (Celebrated Loss)، كآلية تعويض نفسية جذرية.
التعويض عبر "الندبة الجمالية": يقوم الفنان بـ تضمين شروخ وندبات (Scars) واضحة في العمل الفني (كتمزيق القماش وإعادة حياكته، أو إظهار العيوب المادية في النحت). هذه "الندبات الجمالية" تُعوض عن محاولات إخفاء الجرح النفسي والاجتماعي. الفن يعلن أن الجرح جزء أصيل من الهوية الهجينة، وليس شيئًا يجب إخفاؤه.
هجانة الألم والسعادة: العمل الفني الهجين يمزج بين الألوان القاتمة والبهجة، أو بين الرموز المأساوية والاحتفالية في نفس اللحظة البصرية. هذا المزج يعوّض عن ثنائية "الحزن/السعادة" ويُقر بـ التعقيد العاطفي للذات الهجينة، التي تتعلم العيش والاحتفال رغم جرحها العميق. هذه القدرة على دمج الألم في الجمال هي أقوى أشكال التعويض الوجودي.
خاتمة: الفنون الهجينة كـ "نهاية مؤقتة للصراع"
تُعد ألوان الفنون الهجينة الآلية التعويضية الأكثر فعالية في وجه صراع الثقافات، لأنها تُحوّل التناقض إلى منطق جمالي مُتكامل. إن هذه اللوحات والمنشآت ليست مجرد أعمال فنية، بل هي وثائق سوسيولوجية حية تُسجل عملية التكيف الثقافي وتؤكد أن الهوية في العصر الحديث لا يمكن أن تكون نقية، بل هي دائمًا نتاج مزج وتفاوض مستمر. الفن الهجين هو إعلان بأن التكامل ممكن بصريًا، ويُقدم نموذجًا مُغايرًا لمستقبل تُحتفل فيه الهجانة كـ جوهر للإبداع الإنساني.
لتعميق فهمك، ابحث عن أعمال الفنان Yinka Shonibare CBE (النيجيري-البريطاني) وكيف يستخدم الأقمشة الإفريقية بنمط استعماري أوروبي لتعويض صراع الهويات ما بعد الاستعمار.
كلمات البحث: المثاقفة، الفنون الهجينة، صراع الثقافات، التعويض الفني، الهوية الثقافية، النقد البصري، التنميط الثقافي، سوسيولوجيا الفن، الهجانة الثقافية.المراجع والمصادر (References)
Albers, J. (1975). Interaction of Color. Yale University Press.
Arnheim, R. (1974). Art and Visual Perception: A Psychology of the Creative Eye. University of California Press.
Barthes, R. (1977). Image Music Text. Hill and Wang.
Berry, J. W. (1997). Immigration, Acculturation, and Adaptation. Applied Psychology: An International Review, 46(1), 5-34.
Bourdieu, P. (1984). Distinction: A Social Critique of the Judgement of Taste. Harvard University Press.
Deleuze, G., & Guattari, F. (1987). A Thousand Plateaus: Capitalism and Schizophrenia. University of Minnesota Press.
Douglas, M. (1975). Implicit Meanings: Essays in Anthropology. Routledge.
Festinger, L. (1957). A Theory of Cognitive Dissonance. Stanford University Press.
Manovich, L. (2001). The Language of New Media. The MIT Press.
Ricoeur, P. (2004). Memory, History, Forgetting. University of Chicago Press.
Scott, J. C. (1990). Domination and the Arts of Resistance: Hidden Transcripts. Yale University Press.
Butler, J. (1990). Gender Trouble: Feminism and the Subversion of Identity. Routledge.
Benjamin, W. (1969). The Work of Art in the Age of Mechanical Reproduction. Schocken Books.
Kristeva, J. (1982). Powers of Horror: An Essay on Abjection. Columbia University Press.
Spivak, G. C. (1988). Can the Subaltern Speak? Macmillan.
Said, E. W. (1978). Orientalism. Vintage Books.

Post A Comment:
لا توجد تعليقات بعد، كن أول من يعلّق